فصل
المُرَادُ من قوله :﴿ وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ ﴾ كَثْرَةُ البَسَاتيِن، والمعنى أنهم وَجَدُوا من مَنَافع الدُّنيا أكثر مما وَجَدَهُ أهلُ « مكَّة » المشرفة، ثُمَّ مع هذه الزيادة في العِزِّ، وكثرة العدد والبَسْطَةِ في المال والجِسْمِ لمَّا فجرى عليهم ما سمعتم من إهلاكهم، وهذا يوجب الاعتبار.
فإن قيل : ليس في هذا الكلام إلاَّ أن الإهلاك غي مختصّ بهم، بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد لهكوا فكيف يحسنُ إيرادُ هذا الكلام في مَعْرضِ الزَّجْرِ عن الكُفْرِ مع أ، ه يشترك فيه الكَافِرُ والمؤمنُ؟.
فالجوابُ : ليس المقصود منه الزَّجْر بمجرد المَوْتِ، والهلاك، بل المُرَاد منه أنهم بَاعُوا الدَّينَ بالدنيا؛ فعوقبوا بسبب الامْتِنَاعِ عن الإيمان، وهذا المعنى مُشْتَرَكٍ بين الكافر والمؤمن.
فإن قيل : كيف قال :« أوْ لَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنَا » مع أنَّ القَوْمَ ماتوا مُقِرِّين بِصِدْقِ محمد ﷺ فيما يخبر به عنه، وأيضاً فهم لم يُشَاهدوا وقَائِعَ الأمم السَّالفة؟
فالجواب : أنَّ [ أقَاصِيصَ المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا أخبارهم، ومجرد سماعها يكفي في الاعتبار.
فإن قيل : أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟
فالجواب : أن ] فائدته التَّنْبِيهُ أنَّه لا يَتَعَاظَمُهُ إهْلاكُهُمْ وإخْلاَءُ بلادهم منهم، فإنه قَادِرٌ على إنشاء آخرين مَكَانَهُمْ يُعِّمرُ بهم بلاده، كقوله :﴿ وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾ [ الشمس : ١٥ ].
و « من بعدهم » متعلِّق ب « أنشأنا ».
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون حَالاً من « قرن » ؛ لأنه ظَرفُ زمان يعني : أنه منه؛ لكنه منعن ذلك كونُهُ ظرف زمان والزَّمَانُ لا يُخْبَرُ به عن الحَدَثَ ولا يُوصَفُ، وقد تقدَّمَ أنه يصحُّ ذلك بتأويل في « البقرة » عند قوله تعالى :﴿ والذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] و « آخرين » صِفَةٌ ل « قَرْن » ؛ لأنه اسم جَمْع ك « قوم » و « رهط »، فذلك اعْتُبِر معنها، ومن قال : إنَّهُ قدَّرَ مُضَافَاً، أي : أهل قرن آخرين، وقد تقدَّمَ أنَّهُ مرْجُوحٌ، واللَّهُ أعلم.