قوله تعالى :﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ﴾ كما صبر رسول الله ﷺ في الآية الأولى، حَذَّرَ القوم في الآية، وقال لرسوله : قل لهم : لا تغتروا بما وَصَلْتُمْ إليه من الدنيا ولذَّاتها، بل سيروا في الأرض لترعرفُوا صحة ما أخبركم الرسولُ عنه من نزول العذاب بمن كذب الرسل من الأمم السَّالفة قبلكم. يحذر كفار « مكّة »، ويحتمل هذا السير أنْ يكون بالعقول والفِكَرِ، ويحتمل السَّيْرَ في الأرضِ.
قوله :« ثُمَّ » انْظُرُوا « : عطف على » سِيرُوا « ولم يجئ في القرآن العطف في مثل هذا الموضوع إلاَّ بالفاء، وهنا جاء ب » ثم « فيحتاج إلى فَرْقٍ.
فذكر الزمخشري الفرق وهو : أنْ جَعَل النَّظَرَ مُسَبَّباً عن السَّيْرِ في قوله :» فانْظُرُوا « كأنه قيل : سِيُروا لأجْلِ النظرِ، ولا تسيروا سَيْرَ الغافلين.
وهنا معناه إبَاحَةُ السَيَّرِ في الأرض للتجارة وغيرها من المَنَافِع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبَّه عل ذلك ب » ثمَّ « لِتَبَعُدِ ما بين الواجب والمباح.
قال أبو حيَّان - رضي الله عنه - : وما ذكر أوَّلاً مُتَنَاقض؛ لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السَّيْرِ، فكان السَّيْرُ سبباً للنَّظَرِ، ثم قال : فكأنه قيل : سيروا لأجْلِ النَّظَرِ، فجعل السَّيْرَ مَعْلُولاً بالنَّظَرِ، والنَّظَرِ، سَبَبٌ له فَتَنَاقَضَا، ودعوى أن » الفاء « سببيةٌ دعوى لا دَلِيلَ عليها وإنَّما مَعْنَاها التَّعْقِبُ فقط، وأمَّا » زَنَى ماعِز فَرُجم « فَفَهْمُ السببية من قَرِينَةٍ غيرها.
قال :» وعلى تقدير [ تَسْلِيم ] إفادتها السَّبَبَن فَلِمَ كان السيرُ هنا سَيْرَ إباحةٍ، وفي غيره سَيْرَ إيجاب؟ «.
وهذا اعترض صحيح إلاَّ قوله :» إنَّ « الفاء » لا تفيد السَّبِبِيَّةَ « فإنه غيرُ مُرْضٍ، [ ودليله في غير هذا الموضع ] ومثُل هذا المكان في كون الزَّمَخْشَرِيّ جعل شيئاً عِلَّةً، ثم جعله مَعْلولاً، كما سيأتي إن شاء الله - تعالى - في أوَّلِ » الفتح « ويأتي هناك جوابه.
قوله :» كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ « كَيْفَ » خبرٌ مقدَّمٌ، و « عاقبة » اسمها، ولم يُؤنَّثْ، فعلْها؛ لأنَّ تأنيثها غير حقييقي؛ ولأنها بتأويل المآلِ والمُنْتَهَى، فإنَّ العاقبة مَصْدَرٌ على وزن « فاعلة » وهو محفوظ في ألْفَاظ تقدَّمَ ذِكْرُها وهي منتهى الشيء وما يَصيرُ إليه.
والعاقبةُ إذا أطْلِقَتْ اختصت بالثواب قال تعالى :﴿ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ] وبالإضافة قد تستعمل في العُقُوبةِ كقوله تبارك وتعالى :﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى ﴾ [ الروم : ١٠ ]، ﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ [ الحشر : ١٧ ] فَصَحَّ أن تكون اسْتِعَارةً من ضدَّهِ كقوله تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ آل عمران : ٢١ ].
و « كَيْفَ » مُعَلِّقة للنظر، فهي في مَحَلِّ نصبٍ على إسْقَاط الخافضح لأنَّ معناه هنا التَّفَكُّرُ والتدبُّرُ. والله أعلم.