وعلى كُلِّ تقدير فالجملة مُعْتَرضَةٌ بين القسم وجوابه، وهو قوله ﴿ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ وخفضه من ثلاثة أوجه : النعت، والبدل، وعطف البَيان.
وقرأ عكرمة، وسلام بن مسكين :« واللَّهُ رَبُّنا » برفعهما على المبتدأ والخبر.
قال ابن عطية :« وهذا على تَقدِيمٍ وتأخيرٍ، كأنهم قالوا : واللَّهِ ما كُنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنَا » يعني : أن ثَمَّ قَسَماً مُضْمَراً.
فصل في الكلام على الآية
ظاهرُ الآية الكريمة يقتضي أنهم حَلَفُوا في القيامة أنهم كانوا مشركين، وهذا يقتضي إقْدَامَهُمْ على الكذب يوم القيامة، وللناس فيه قولان :
الأول : وهو قول أبي عباس على الجبائي والقاضي- : أنه أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتج عليه بوجوه :
الأول : أن أهل القيامة يعرفون الله بالاضطرار وأنهم لو عرفوه بالاستدلال لصار موقف القيامة دَاَرَ تكُليفٍ، وذلك باطلٌ، وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار وجب أنْ مُلْجئين على ألاَّ يفعلوا القبيح، وذلك يقتضي ألاَّ يقدم أحَدٌ من أهل القيامة على الكذبِ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يُقالَ : إنهم أقدموا على فعل القَبيح؛ لأنهم لمَّا عَايَنُوا أهْوَال يوم القيامة اضطربت عُقُولُهُمْ، فقالوا هذا الكذب عند اخْتِلاَلِ عقولهم، أو يقال : إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا؟
فالجواب عن الأوَّل : أنه لا يجوزأن يحشرهم ويوبخهم بقوله :﴿ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُون ﴾ [ الأنعام : ٢٢ ] ثم يحكي اعتذارهم مع أنهم غي عُقلاء، هذا لا يليقُ بحمة اللِّه تعالى.
وأيضاً فلا بُدَّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة ليعلموا أنهم فيما يعاملهم اللَّهُ به غير مظلومين. والجوابُ على الثاني : أنَّ نِسْيَانَهُمْ لما كانوا عليه طُول عمرهم في دار الدنيا مع كمال العقل [ بعيدٌ ]، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور.
الوجه الثاني : أنَّ هؤلاء الذين أقْدَمُوا على الكذب إمَّا أن يُقال : إنهم عُقَلاءُ أو غيرعقلاء، فالثاني باطلٌ، لأنه لا يليق بحكمةه الله تعالى أن يحكي كلام المجَانين في معرض تميهيد العُذْرِ وإن كانوا عقلاء يعلمون أنَّ كانوا عقلاء يعلمون أنَّ اللَّهَ عالمٌ أحْوَالَهُمْ مُطَّلِعٌ على افعالهم، ويعلمون أنَّ تجويز الكذب على اللَّهَ -تعالى- مُحَالٌ، وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلاَّ زيادة المَقْتِ والغَضَبِ، وإذا كان كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب.
الوجه الثالث : أنهم لو كذبوا في مَوْقِفِ القيامة، ثُمَّ حَلَفُوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقْدَمُوا على نوعين من القَبيح، فإن قلنا : إنهم يستحُّون بذلك العقابَ، صارت الدار الآخرة دَارَ تكليف، وأجمعوا على أنَّ الأمْرَ ليس كذلك.
وإن قلنا : إنَّهم لا يستحقُّون على ذلك الكذب، ولا على ذلك الحلف الكاذب عَقَاباً، فهذا يقتضي حُصُول الإذن من اللَّهِ - تعالى - في ارتكاب القَبَائِِحِ، وذلك باطلٌ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدَامُ أهل القيامة على القبيح والكذبِ، وإذا ثبت هذا فَيُحْمَلُ قولهم :« واللَّهِ ربَّنَا ما كنا مشركين » في اعتقادنا وظُنُوننا؛ لأن القوم يعتقدون ذلك.