قوله :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾ في الضميرين- أعني « هم » وهاء « عنه » - أوجه :
أحدهما : أن المرفوع يعود لعى الكُفَّارِ، والمجرور يعود على القرآن الكريم، وهو أيضاً الذي عَادَ عليه الضَّميرُ المَنْصُوب من « يَفْقَهُوه »، والمُشَارُ إليه بقولهم :« إنْ هَذَا ».
والثاني : أنَّ « هم » يعود على من تَقدَّمَ ذكرهم من الكُفَّار، وفي « عنه » يعود على الرسول، وعلى هذا ففيه الْتَفَاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبَةِ، فإن قوله :﴿ جَاءُوَكَ يُجَادلونك ﴾ خطابٌ للرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام، فخرج من هذا الخطاب إلى الغَيْبَةَ.
وقيل : يعود المرفوع على أبي طالب وأتْبَاعِهِ.
وفي قوله :« يَنْهَوْنَ » و « يَنْأوْنَ » تَجْنِيسُ التصريف، وهو عِبَارةٌ عن انفراد كل كلمة عن الأخرى بحرف ف « ينهون » انفردت بالهاء، و « يَنْأوْن » بالهمزة، ومثله قوله تعالى :﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ] ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُون ﴾ [ غافر : ٧٥ ].
وقوله ﷺ :« الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيْهَا الخَيْرُ »، وبعضهم يسميه « تجنيس التَّحْريف » وهو الفرق بين كلمتين بحرف وأنشدوا في ذلك قول القائل :[ الكامل ]

٢١٢٨- إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهابِ نُفُسِ
وذكر غيره أن « تجنيس التحريف » هو أن يكون الشَّكْلُ، فرقاً بين كلمتين، وجعل منه « اللُّهِى تفتح اللَّهى » وقد تقدَّم تحقيقه.
وقرأ الحسن و « يَنَوْن » بإلقاء حركة الهمزة على النونه وحذفها، وهو تخفيف قياسي.
و « النَّأيُ » : البُعْدُ، قال :[ الطويل ]
٢١٢٩- إذَا غَيَّرَ النَّأيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَزَل ْ رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةً يبْرَحُ
وقال الآخر في ذلك، فأجَادَ، [ الطويل ]
٢١٣٠- ألاَ حَبَّذا هِنْد وأرْضٌ بِهَا هِنْدُ وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّايُ والبُعْدُ
عطف الشيء على نفسه للمُغَايَرَةَ اللَّفْظيَّة يقال : نَأي زيد يَنْأى نَأياً، ويتعدَّى بالهمزة، فيقال : أنْأيْتُهُ، ولا يُعَدِّى بالتضعيف، وكذا كل ما كان عينه همزةً.
ونقل الواحدي أنه يقال : نَأيْنُهُ بمعنى نَأيْتُ عنهُ.
وأنشد المُبَرِّدُ :[ الطويل ]
٢١٣١- أعَاذِلُ إنْ يُصْبِحْ صَدَاي بِقَفْرَةٍ بَعيداً نآنِي صَاحِبِي وَقَريبِى
أي : نَأى عَنَّي.
وحكى اللَّيْثُ :« نَأيْثُ الشيء »، أي : أبْعَدْتُهُ، وأنشد :[ الطويل ]
٢١٣٢- إذَا مَا الْتَقَينا سَالض مِنْ عَبَرَاتِنَا شَآبيبُ يُنْأى سِيْلُهَا بالأصَابِع
فَبَنَاهُ للمفعول، أي : يُنَحِّى ويُبْعَدُ.
والحاصلُ أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على البُعْدِ، ومنه أتَنَأى أي : أفْعَلُ النَّأيَ. والمَنْأى : الموضع البعيدُ.
قال النابغة :[ الطويل ]
٢١٣٣- فَإنَّكَ كالمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي وَإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عَنْكَ وَاسِعُ
و « تَنَاءَى » أي : تباعد، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرَةِ التي حول الخِبَاءِ لتبعد عنه الماء.
وقُرِئ :﴿ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾ [ فصلت : ٥١ ] وهو مَقْلُوبٌ من « نأى »، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ الأصل هو المَصْدَرُ وهو « النَّأيُ » بتقديم الهمزة على حرق العِلِّة.


الصفحة التالية
Icon