فصل في المراد بالآية وسبب نزولها


معنى الآية الكريمة أنهم يَنْهَوْنَ النَّاسَ عن اتِّبَع مُحَمَّدِ ﷺ ويَنْأوْنَ عنه، أي : يبتاعدون عنه بأنفسهم نزلت هذه الآية في كُفَّار « مكة » المشرفة، قال محمد بن الحَنَفِيَّةِ والسُّدي والضَّحاك، وقال قتادةُ : يَنْهَوْنَ عن القرآن، وعن النَّبِيَّ ﷺ ويتباعدون عنه.
واعلم أنَّ النهي عن النبي ﷺ مُحَلٌ فلا بد أن يكون النهي عن فعل يتعلَّقُ به، فذكروا فيه قولين :
الأول : ينهون عن تَدَبُّرِ القُرْآنِ واستمامعه، وعن التَّصديقِ بنبوة مُحَمَّدٍ ﷺ والإقرار برسالته.
الثاني : قال ابن عبَّاسِ - رضي الله عنه - ومقاتل : نزلت في أبي طالب كان ينهى النَّاس عن أذَى النبي ﷺ ويمعنهم ويَنْأى عن الإيمان به أي : يَبْعَدُ، حتى روي أنه اجتمع إليه رؤوس المشركين، وقالوا : تَخَيَّرْ من أصْبَحِنَا وَجْهاً وادْفَعْ إلينا محمداً، فقال أبو طالب : ما أنْصَفْتُمُونِي أدْفَعُ إليكم ولدي لِتَقْتُلُوهُ وأرَبِّي وَلَدَكُمْ.
وروي أنَّ النبي ﷺ دَعَاهُ إلى الإيمان فقال : لولا أن تُعِيِّرُني قُرَيْشٌ لأقرت بها عَينكَ، ولكن أذُبُّ عنك ما حييتُ، وقال فيه أبياتاً :[ الكامل ]
٢١٣٤- واللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بجَمْعِهِم ْ حَتّى أوَسَّدَ فِي التُّرابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بأمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ وابْشِرْ وَقَرَّ بِذاكَ مِنْكَ عُيُونَا
وَدَعَوْتَنِي وَعَرفْتُ أنَّكَ نَاصِحي وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا
وَعرَضْتَ دِنيا قَدْ عَلِمْتُ بأنَّهُ مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ الملامَةُ أو حذارُ مَسَبَّة ٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا
واعلم أنَّ القول الأوَّلَ أشبه لوجهين : د
أحدهما : أنَّ جميع الآيات المتقدمة في ذَمِّ طريقتهم، فلذلك كان يبغي أن يكون قولهم :« وهم ينهون عنه » مَحْمُولاً على أمْرٍ مذموم، وإذا حملناه على أنَّ أبا طالبٍ كان ينهى عن إيذائه لما حصل هذا النَّظْمُ.
وثانيهما : قوله تبارك وتعالى بعد ذلك :﴿ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم ﴾ يعني به ما تقدم ذكره، ولا يَليقُ ذلك النهي عن أذِنَّيِهِن لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك.
فإن قيل : إنَّ ﴿ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم ﴾ يرجع إلى قوله :﴿ يَنْأوْنَ عَنْهُ ﴾ لا قوله :« ينهون عنه » ؛ لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه بمُفَارَقَةِ دينه وترك موافقته وذلك ذَمٌّ.
فالجوابُ أن ظاهر قوله :﴿ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم ﴾ يرجعُ إلى كل ما تقدَّمَ ذِكْرُهُ، كما يقال :« فلان يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه، ولا يَضُرُّ بذلك إلاَّ نفسه »، فلا يكون هذا الضرر متعلّقاً بأحد الأمرين دون الآخر.
قوله :« وإن يهلكون » « إنْ » نافية كالتي في قوله :﴿ إِنْ هاذآ ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ] و « أنفسهم » مفعولٌ، وهو استثناءُ مُفَرَّغٌ، ومفعول « يَشْعرون » محذوف : إمَّا اقتصاراً، وإمّا اختصاراً، أي : وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم بتماديهم في الكُفْرِ وغُلُوِّهِمْ فيه، قاله ابن عباس.


الصفحة التالية
Icon