و « الَّذي يَقُولُون » فاعِلٌ، وعائدُهُ محذوفٌ، أي : الذي يَقُولونَهُ من نِسْبَتِهمْ له إلى ما لا يَليقُ به، والضَّميرُ في « إنه » ضمير الشَّأن والحديث والجُمْلَةُ بعدهُ خَبَرُهُ مُفَسِّرةٌ له، ولا يجوزُ في هذا المُضَارع أن يقدر باسم فاعلٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّر في قولك :« إن زيداً يقوم أبوه » لئلاَّ يلزمُ تفسيرُ ضمير الشأن بمفردٍ.
وقد تقدَّمَ أنه مَمْنوعٌ عند البصرييّنَ.
فصل في سبب نزول الآية
قال السُّدِّيِّ : التقى الأخْنَسُ بن شريق، وأبو جَهَل بن هشامٍ، فسأله الأخنس أبَا جَهْلِ فقال : يا أبا الحكم، أخبرني عن مُحَمَّدٍ أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس ها هنا أحَدٌ يسمعُ كلامك غيري؟.
فقال أبو جَهْلِ : والله إن محمَّداً لَصَادِقٌ، وما كذَب قَطّ، ولكن إذا ذَهّبَتْ بَنُو قُصَيَّ باللّوَاء والسٍّقاية والحِجَابَةِ والندْوةِ، والنُّبُوَّة، فماذا يكون لِسَائِرِ قريشٍ، فأنزر اللَّهُ هذه الآية.
وقال ناحيةُ بن كَعْبَ : قال أبو جَهْلِ للنبي ﷺ : ما نَتَّهِمُكَ ولا نُكذِّبُكَ، ولكنَّا نُكَذِّبُ الذي جئت به، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وقيل : إنَّ الحارث بن عامر من قريشٍ قال : يا مُحَمَّدُ، والله إن اتَّبَعْنَالكَ نُتَخَطَّفُ من أرْضِنَا، فنحنُ لا نُؤمِنُ بك لهذا السَّببِ. واعلم أن فِرَقِ الكفار كانوا كثيرين، فمنهم من ينكر نُبُوَّتَهُ؛ لأنه ينكر أن يكون الرسولُ من البَشَرِ، وقد تقدَّمَ شُبْهَتُهُمْ، وأجابَ اللَّهُ عنها.
ومنهم من ينكر البَعْثَ، ويقول : إن محمَّداً يخبر بالحَشْرِ والنَّشْرِ بعد الموت، وذلك مُحَالٌ، فيطعن في رسالة محمَّدٍ من هذا الوَجْهِ، وقد ذكر الله شبههُمْ في هذه السُّورَةِ، وأجاب عَنْهَا.
ومنهم من كان يُشَافِهُهُ بالسَّفَاهَةِ وهُوَ المذكورُ في هذه الآية.
واختلفوا في ذلك المُخْزِنِ.
فقيل : كانوا يَقُولوُنَ : ساحرٌ، وشاعرٌ، كاهن، ومجنون وهو قول الحسن.
وقيل : كانوا يُصَرِّحُونَ بأنهم لا يؤمنون به.
وقيل : كانوا ينسبونه إلى الكذبِ.
قوله :« فإنهم لا يكذبُونَكَ ».
قرأ نافع، والكسائي « لا يكذبونك » مُخَفَّفاً من « أكْذّب ».
والباقون مثقَّلاً من « كذَّبَ » وهي قراءة عَلِيَّ، وابن عبَّاسٍ.
واختلق الناسُ في ذلك، فقيل : هُمَا بمعنَى واحدٍ، مثل : أكثر وكَثَّرَ وأنْزَلَ ونزَّلَ، وقيل : بينهما فَرْقٌ.
قال الكسائي : العَرَبُ تقول : كَذّبت الرجل بالتَّشْديدي إذا نُسِبَ الكذب إليه، وأكذبته إذا نِسَبْتَ الكذب إلى ما جَاءَ دُونَ أن تَنْسِبَهُ إليه، ويقولون أيضاً : أكذبت الرَّجُلَ إذا وجدته كَاذِباً، ك « أحْمَدْتُهُ » إذا وجدته محمُوداً، فَمَعْنِى لا يُكذبونك مُخَفَّفاً : لا يَنْسِبُون الكَذِبَ إلَيْكَ ولا يجدونك كاذباً وهو واضحٌ.
وأمَّا التَّشديد فيكون خبراً مَحْضاً عن عدم تكذيبهم ضَرْورَةً.
فالجوابُ من وُجُوه :
الأول : أنَّ وإن كان مَنْسُوباً إلى جميعهم أعْنِي عدم التكذيب، فهو إنما يُرَادُ بعضهم مجازاً، كقولك :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾ [ الشعراء : ١٠٥ ] ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ﴾ [ الشعراء : ١٦٠ ] وإن كان فيهم من لم يكذبه، فهو عامُّ يرادُ به الخَاصُّ.