وقد تقدَّمَ التَّنْبِيهُ على ذلك، وأن فيه خلافاً، والتقدير : من يُشْقِ اللَّهُ يَشَأ إضلاله، ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايتَهُ.
فإن قيل : هل يجوز أن تكون « من » مفعولاً مُقدِّماً ل « يشاء » ؟
فالجواب : أن الأخْفَشَ حكى عن العربِ أنَّ اسم الشَّرْطِ غير الظرف، والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجَزَاءِ ضَمِيرٌ يعود عليه، أو على أضيف إليهن فالضَّمير في « يضلله » و « يجعله » : إمّا أن يعود على المُضافِ المحذوف، ويكون كقوله :﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ ﴾ [ النور : ٤٠ ].
فالهاء في « يغشاه » تعود على المُضاف، أي : كَذي ظلمات يَغْشَاهُ.
وإمَّا أن يعود على اسم الشرط [ والأول ممتنع؛ إذ يصير التقدير : إضلالُ من يشأ الله يضلله، أي : يضلّ الإضلال، وهو فاسد.
والثاني أيضاً مُمْتَنَعٌ لخلو الجواب من ضَمِيرٍ يعود على المضاف إلى اسم الشرط ].
فإن قيل : يجوز أن يكون المعنى : من يشأ الله بالإضلالِ، وتكون « من » مفعولاً مقدّماً؛ لأن « شاء » بمعنى « أراد »، و « أراد » يتعدَّى بالباء.
قال الشاعر :[ الطويل ]

٢١٥٧- أرَادَتْ عَرَارًا بالهَوَانِ ومَنْ يُرِدْ عَرَاراً لَعَمْرِي بالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ
قيل : لا يلزم من كَوْنِ « شاء » بمعنى « أراد » أن يتعدَّى تعديته، ولذلك نَجِدُ اللفظ الوحدَ تختلف تعديتُهُ باختلاف متعلّقة، تقول : دخلت الدَّارَ، ودخلت في الأمْرِ، ولا تقول : دخلت الأمر، فإذا كان في اللَّفظِ الواحد فَمَا بَالُكَ بلفظين؟ ولم يُحْفَظْ عن العَربِ تعديَةُ « شاء » بالباء، وإن كانت في معنى أراد.

فصل في أنّ الهداية والضلال من الله تعالى


احتج أهْلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أن الهُدَى والضلال ليسا إلاَّ من الله - تعالى - لتصريح الآية بذلك.
وأجاب المعتزلة عن ذلك بوجوه :
الأول : قال الجُبَّائي : معناه أنّه - تعالى يحعلهم صُمَّاً وبُكماً وعُمْياً يوم القيامة عند الحَشْرِ، ويكنون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صُمَّا وبُكماً في الظلمات ويضلهم بذلك عن الجَنَّةِ، وعن طريقها، ويصيرهم إلى النار، وأكَّد القاضي هذا بأنه - تعالى - بيَّن في باقي الآيات أنه يحشرهم على وجوهم عُمْياً وبُكْماً وصُمّاً مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ.
الثاني : قال الجُبائي أيضاً : ويحتمل أنهم يكونون كذلك في الدنيا، فيكون توسّعاً من حيث أنهم جعلوا بتكذيبهم بآيات الله في الظلمات لا يهتدون إلى منافعِ الدينا فَشَبَّهَهُمْ من هذا الوجه بهم وأجرى بهم وأجرى عليهم مثل صَفَاتِهِمْ على سبيل التَّشْبِيهِ.
الثالث : قال الكَعْبِيُّ : قوله « صُمُّ وبُكْمٌ » قائم على الشَّتْمِ والإهانة، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة.
أمَّا قوله :﴿ مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ ﴾ فقال الكعبي : ليس هذا على سبيل المجاز لأنه - تعالى - وإن أجْمَلَ القول فيه هَا هُنَا فَقَدْ فَسَّرَهُ في سائر الآيات، وهو قوله :


الصفحة التالية
Icon