والثاني : أنها لا رَافِع لها؛ إذا ليست فاعلاً؛ لأن « التاء » فاعل، ولا يكون لفعل واحدٍ فاعلان، وإمَّا أن تكون مَنْصُوبةً، وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه :
أحدها : أن هذا الفِعْلَ يتعدَّى إلى مَفْعُولينِ كقولك :« أرأيت زيداً ما فعلَ » فلو جعلت « الكاف » مفعولاً كان ثالثاً.
والثاني : أنه لو كان مَفْعُولاً لكان هو الفاعل في المَعْنَى، وليس المعنى على ذلك، إذ ليس الغَرَضُ أرأيت نفسك، بل أرأيت غيرك، ولذلك قلت : أرأيتك زيداً وزيد غير المُخَاطَبِ، ولا هو بدل منه.
والثالث : أنه لو كان مَنْصُوباً على أنه مَفْعُولٌ لظَهَرتْ علامةُ التثنية والجمع والتَّأنيث في « التاء » فكنت تقول : أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ «. ثم ذكر مَذْهَبَ الفرَّاءِ ثم قال :» وفيما ذكرنا إبطالٌ لمذهبه «.
وقد انْتَصَرَ أبو بكر بن الأنْبَاريّ لمذهب القرَّاء بأن قال :»
لو كانت « الكافُ » توكيداً لوقَعت التَّثْنِيَةُ والجمع بالتاء، كما يَقَعَانَ بها عند عدم « الكاف »، فلمَّا فُتِحت « التاءُ » في خِطَابِ الجَمْعِ ووقع مِيْسَمُ الجمع لغيرها كان ذلك دَلِيلاً على أن « الكاف » غيرُ توكيد.
ألا ترى أن « الكاف » لو سَقَطَتْ لم يَصلُحْ أن يُقالَ لجماعة : أرأيت، فوضحَ بهذا انْصِرافُ الفِعْلِ إلى « الكاف »، وأنها واجبةٌ لازَمَةٌ مُفْتَقَرٌ إليها «.
وهذا الذي قاله أبُو بَكْرٍ بَاطِلٌ بالكاف اللاحِقَةِ لاسم الإشارة، فإنها يَقَعُ عليها مِيْسَمُ الجَمْعِ، ومع ذلك هي حرفٌ.
وقال الفراء :»
موضعُ « الكاف » نصب، وتأويلها رَفْعٌ؛ لأن الفعل يِتَحَوَّلُ عن « التاء » إليها، وهي بِمَنْزِلِةِ « الكاف » في « دونك » إذا أغْريَ بها، كما تقول :« دُونَكَ زيداً » فتجد « الكاف » في اللَّفْظِ خَفْضاً، وفي المعنى رفعاً؛ لأنها مَأمُورةٌ، فكذلك هذه « الكافُ » موضعُها نصبٌ، وتأويلها رفع «.
قال شهابُ الدين :»
وهذه الشُّبْهَةُ بَاطِلةٌ لما تقدَّم، والخلافُ في « دونك » و « إليك » وبابهما مَشْهُورٌ تقدَّم التَّنْبِيهُ عليه مراراً «.
وقال الفرَّاءُ أيضاً كلاماً حَسَناً [ رأيت أن أذكره فإنه مُبِينٌ نَافِعٌ ] قال : للعرب في »
أرأيت « لغتان ومعنيان :
أحدهما : رؤية العَيْنِ، فإذا رأيت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المُخَاطَبِ، ويتصرَّفُ سِائِرِ الأفعال، تقول للرجل :»
أرأيتك على غير هذه الحالِ «، تريدُ : هل رأيت نفسك، ثم تُثَنِّي وتَجْمَعُ فتقول :» أرَأيْتُمَاكُمَا، أرَأيْتُمُوكُمْ، أرَأيْتُكُنَّ «.
والمعنى الآخر : أن تقول :»
أرأيتك « وأنت تريد معنى » أخبرني «، كقولك : أرأيتك إنْ فَعَلْتُ كذا ماذا تَفْعَلُ، أي : أخبرني، وتترك » التاء « إذا أردت هذا المعنى مُوَحَّدةً؛ لأنهم كل حالٍ تقول :» أرأيتكما، أرأيتكم، أرأيتكنَّ «، وإنما تركتِ العربُ » التاء « واحدةً؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفِعْلُ واقعاً من المُخَاطَبِ على نفسه، فاكْتَفَوْا من علامةِ المُخاطبِ بذكره في المكان، وتركوا » التاء « على التذكير والتوحيد إذا لم يكون الفَعْلُ واقعاً، والرُّؤيَةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المُخَاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل : ظنتني ورأيتني، ولا يقولولن ذلك في الأفْعَالِ التَّامةِ، لا يقولون خارجاً؟ وذلك أنَّهم أرَادُوا الفَصْلَ بين الفعلِ الذي قد يُلْغَى، وبين الفعل الذي لا يَجُوزُ إلْغَاؤهُ، ألا ترى أنك تقول :» أنا أضُنُّ خَارجٌ « فتلغي » أظن « وقال الله تعالى


الصفحة التالية
Icon