وقد ذكر هذا الاعتراض، وأجاب عنه الشيخ شهابُ الدين أبو شامة فقال :« ومنهم مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى لأجل طولِ الكلام على حَدِّ قوله :﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُون ﴾ [ المؤمنون : ٣٥ ] ودخلت » الفاء « في » فأنه غفور « على حدِّ دخولها في ﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ ﴾ [ آل عمران : ١٨٨ ] على قول من جعلهُ تكريراً لقوله :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُون ﴾ [ آل عمران : ١٨٨ ] إلاَّ أنه هذا ليس مثل » أيَعدكُمْ « ؛ لأن هذه لا شرط فيها، وهذه فيها شَرْطٌ، فيبقى بغير جواب.
فقيل : الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : غفر لهم » انتهى.
وفيه بُعْدٌ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاءِ، وكان يبغي أن يجيب به هنا، لكنه لم يفعل ولم يظهر فَرْقٌ في ذلك.
الرابع : أنها بدلٌ من الأولى، وهو قول الفرَّاء والزَّجَّاج وهذا مَرْدُودٌ بشيئين :
أحدهما : أنَّ البدل لا يدخل فيه حَرْفُ عطفٍ، وهذا مقترن بحرف العطف، فامتنع أن يكون بدلاً.
فإن قيل : نجعل « الفاء » زائدة، فالجوابُ أن زيادتها غير زائدة، وهو شيء قال به الأخفش.
وعلى تقدير التَّسْليم فلا يجُوزُ ذلك من وَجْهٍ آخر، وهو خُلُوُّ المبتدأ، أو الشرط عن خبرٍ أو جواب.
والثاني من الشيئين : خُلُوُّ المبتدأ، أو الشرط عن الخبر، أو الجواب كما تقدَّم تقريره، فإن قيل : نجعل الجواب مَحْذُوفاً - كما تقدَّم نقلهُ عن أبي شامة - قيل : هذا بعيد عن الفَهْمِ.
الخامس : أنها مرفوعة بالفاعليَّةِ، تقديره :« فاسْتَقَرَّ أنَّهُ غفورٌ رحيمٌ » أي : اسْتَقَرَّ وثبت غُفْرَانُهُ، ويجوز أن يُقدَّر في هذا الوجه جَارّاً رافعاً لهذا الفاعل عند الأخْفَشِ تقديره : فعليه أنه غفورٌ، لأنه يرفع به وإن لم يعتمد، وقد تقدَّم تحقيقه مِرَاراً.
وأمَّا القراءة الثانية : فكسر الأولى من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها مُسْتَأنَفَةٌ، وأن الكلام تامُّ قبلها، وجيء بها وبما بعدها كالتَّفْسير لقوله :« كتبَ ربُّكُم على نَفْسهِ الرَّحْمَةَ ».
والثاني : أنَّها كُسِرت بعد قَوْلٍ مُقدَّرٍ، أي : قال الله ذلك، وهذا في المعنى كالذي قبله.
والثالث : أنه أجري « كتب » مُجْرَى « قال »، فَكُسِرَتْ بعده كما تُكْسَرُ بعد القَوْلِ الصريح، وهذا لا يَتَمَشَّى على أصول البصريين.
وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين :
أحدهما : أنها على الاسْتِئْنَافِ بمعنى أنها في صَدْرِ جملةٍ وقعتْ خبراً ل « من » الموصُولةِ، أو جواباً لها إن كانت شرطاً.
والثاني : أنها عُطِفَتْ على الأولى، وتكريرٌ لها، ويعترض على هذا بأنه يَلْزَمُ بقاءُ المبتدأ بلا خبرٍ، والشرط بلا جزاءٍ، كما تقدَّم ذلك في المفتُوحَتَيْنِ.
وأجاب أبو البقاء عن ذلك بأن خبر « من » محذوف دلَّ عليه الكلامُ، وقد تقدَّم أنه كان ينبغي أن يكون العائدُ مَحْذُوفاً، أي : فإنه غفورٌ له.