وأما البَحْرُ وإحاطة العَقْلِ بأحواله أقَلُّ إلاَّ أن الحِسِّ على أن عجائب البحار في الجملة أكُثَرُ، وطولها وعرضها أعْظَمُ، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب.
فإذا اسْتَحْضَرَ الخَيَالُ صُورَةَ البر والبحر على هذه الوجوه، ثم عرف أن مجموعها قِسْمٌ حقير من الأقسام الدَّاخلة تحت قوله :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ فيصير هذا المِثَالُ المَحْسُوسُ مقوِّياً ومكملاً لِلْعَظَمةِ الحاصلة تحت قوله :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ وكذلك قوله :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ لأن العقل يِسْتَحْضِرُ جميع ما على وَجْهِ الأرض من المُدُنِ والقُرَى والمفاوِزِ والجبالِ والتِّلال، ثم يستحضر كَمْ فيها من النَّجْمِ والشجر، ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقةٍ إلاَّ والحقُّ - سبحانه- يعلمها، ثم يتجاوز من هذا المثالِ إلى مثالٍ آخر أشد منه هَيْئَةً، وهو قوله :« ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرض » وذلك لأن الحَبَّةَ تكون في غاية الصِّغَرِ، و « ظلمات الأرض » مَوْضِعٌ يخفي أكبر الأجسام وأعظمها، فإذا سمع أن لتك الحبَّة الصغيرة المُلْقَاةَ في ظلمات الأرض على اتِّساعها وعظمها لا تخرج من علم الله ألْبَتَّةَ صارت هذه الأمثال مُنَبِّهَة على عظمِ عَظَمَتِهِ مقوية للمعنى المُشَارِ إليه بقوله :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ ثم إنه - تعالى - لما قَوَّى ذلك الأمر المعقول المَحْضَ المجرد بذكر هذه الجُزْئِيَّاتِ المحسوسات عاد إلى ذِكْر تلك القضية المَحْضَةِ بعبارة أخرى، فقال :﴿ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس ﴾ وهو عَيْنُ المذكور في قوله :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ
. قوله :« مِنْ وَرَقَةٍ » فاعل « تسقط »، و « من » زائدة لاسْتِغْرَاقِ الجنس.
وقوله :« إلاَّ يَعْلَمُهَا » حالٌ من « ورقة »، وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النَّفْي، والتقدير : وما تسقط من ورقة إلا عالم هن بها، كقولك : ما أكرمت أحداً إلا صالحاً.
قال شهاب الدِّين : ويجوز عندي أن تكون الجُمْلَةُ نعتاً ل « ورقة » وإذا كانوا أجَازُوا في قوله :﴿ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [ الحجر : ٤ ] أن تكون نَعْتاً ل « قرية » في قوله :﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [ الحجر : ٤ ] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة « الواو » فَبِأنْ يجيزوا ذلك هنا أوْلَى.
وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جرِّ على اللفظ، أو رفع على المَحَلّ، [ والمعنى : يريد ساقط أو نَائِيَة أي : يعلم عدد ما يسقط من ورقِ الشجر، وما يبقى عليه.


الصفحة التالية
Icon