وهذا نوع آخر من دلائلِ التوحيد مَمْزُوجٌ بالتخويف فبين كونه- تعالى - قادراً على إيصال العذاب إليهم من هذه الطُّرُقِ المختلفة تارة من فوقهم، وتارةً من تحت أرجهلم، فقيل : هذا حقيقة.
فأما العذابُ من فوقهم كالمطرِ النازل عليهم في قِصَّةِ نوح، والصَّاعقةِ، والرِّيحِ، والصَّيْحةِ، ورَمْي أصحاب الفيل.
وأما الذي من تحت أرجلهم : كالرَّجْفَةِ والخَسْفِ، وقيل : حبس المطر والنبات. وقيل : هذا مجاز.
قال مجاهد وابن عباس في رواية عكرمة :« مِنْ فَوْقِكُمْ » أي : من الأمراء، أو من تحت أرجلكم من العبيد والسَّفلةِ.
قوله :« عَذَاباً مِنْ فَوقكُم » يجوز أن يكون الظَّرْفُ معلِّقاً ب « نبعث » وأن يكون متعلّقاً بمحذوف على أنه صفةٌ ل « عذاباً » أي : كائناً من هاتين الجِهَتين. قوله :« أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً » عطف على « يبعث ».
والجمهور على فتح الياء من « يَلْبِسَكُمْ » وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بمعنى يخلطكم فِرقاً مختلفين على أهْوَاء شَتَّى كل فرقة مُشَايعة لإمام، ومعنى خَلْطِهِم : إنْشابُ القتالِ بيهم، فيختلطون في ملاحم القتال كقول الحماسي :[ الكامل ]
٢١٩٠- وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتيبَةٍ | حَتَّى إَذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يِدِي |
فَتَرَكُتُهُمْ تَقِصُ الرِّمَاحُ ظُهُورَهُم | ْ مَا بَيْنَ مُنْعَفِرِ وَآخَرَ مُسْنَدِ |
قال أبو حيَّان :« ويحتاج في جعله مصدراً إلى نقل من اللغة ».
ويجوز على هذا أيضاً أن يكون حالاً ك « أتَيْتُهُ رَكْضاً » أي : راكضاً، أو ذا ركض.
وقال أبو البقاء : والجمهور على فتح الياء، أي : يَلْبِسُ عليكم أموركم، فحذف حرف الجر والمفعول، والأجود أن يكون التقدير : أو يَلْبِسُ أموركم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
فصل في معنى الآية
قال الُفَسِّرُونَ : معناه : أن يجعلكم فرقاً، ويثبت فيكم الأهواء المختلفة.
وروى عمرو بن دينار عن جابرٍ، قال :« لما نزلت هذه الآية ﴿ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ قال رسوله الله ﷺ :» أعُوذُ بِوَجْهِكَ « قال :﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ قال :» أعُوذُ بِوَجْهِكَ «. قال :﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ قال رسوله الله ﷺ :» هذا أهْوَنُ أوْ هَذَا أيْسَرُ « وعن عامر بن سعد بن أبي وقَّاصٍ، عن أبيه قال :» أقبلنا مع روسوله الله ﷺ حتى مررنا على مسجد بني مُعاويةَ، فدخل وصلَّى ركعتين، وصلينا معه فناجى ربه طويلاً، ثم قال :« سَألْتُ ربِّي ثلاثاً : ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي فأعْطَانِيها، وسَالْتُهُ ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي بالسَّنَةِ فأعْطَانيها، وسَألْتُهُ ألاَّ يَجْعَلَ بأسَهُمْ بَيْنَهُمْ فمنَعَنِيهَا »