قال تعالى :﴿ والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة ﴾ [ النحل : ٧٨ ] فإذا رجع من العِلْمِ إلى الجَهْلِ مرة أخرى، فكأنه رجع إلى أوَّل أمره، فلهذا السبب يقال : فلان رُدَّ على عقبيه ].
قوله « كالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ » في هذه الكاف وجهان :
أحدهما : أنه نَعْتُ مصدرٍ محذوف؛ أي : نُرَدُّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين.
الثاني : في مَحَلّ نصب على الحال من مرفوع « نرد »، أي : نرد مُشْبهينَ الذي استهوته الشياطين، فمن جوَّز تعدُّدّ الحالِ جعلها حالاً ثانية، إن جعل « على أعقابنا » حالاً، ومن لم يُجَوِّزْ ذلك جعل هذه الحال بدلاً من الحال الأولى، أو لم يجعل على أعقابنا حالاً، بل معلّقاً ب « نرد ». الجمهور على « اسْتهْوتْهُ » بتاء التأنيث، وحمزة « اسْتَهْوَاهُ » وهو على قاعدته من الإمالة، والوجهان معروفان مما تقدم في ﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ [ الأنعام : ٦١ ] وقرأ أبو عبد الرحمن والأعمش :« اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْطانُ » بتأنيث الفعل، والشيطان مفرداً.
قال الكسائي :« وهي كذلك في مصحف ابن مسعود »، وتوجيه هذه القراءة أنَّا نُؤوِّل المذكربمؤنث كقولهم :« أتته كتابي فاحتقرها » ؛ أي : صحيفتي، وتقدَّم له نظائر.
وقرأ الحسن البصري :« الشَّيَاطُون » وجعلوها لَحْناً، ولا تَصِلُ إلى الَّحْنِ، إلا أنها لُغَيّةٌ رديئة، سُمِع : حول بسان فلان بساتون وله سلاطون، ويُحْكَى أنه لما حيكت قراءة الحسن لَحَّنَهُ بعضهم، فقال الفراء :« أي والله يُلحِّنُون الشيخ، ويستشهدون بقول رؤبة ». ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك.
والمراد ب « الَّذي » الجِنْسُ، ويحتمل أن يراج به الواحد الفَذُّ.
قوله :« في الأرْضِ » فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مُتعلِّق بقوله :« اسْتَهْوتْهُ ».
الثاني : أنه حالٌ من مفعول « اسْتَهْوَتْهُ ».
الثالث : أنه حالٌ من « حيران ».
الرابع : أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في « حيران »، و « حيران » حال إما من « هاء » « استهوته » على أنها بدلٌ من الأولى، وعند من يجيز تعدُّدَهَا، وإما من « الَّذِي »، وإما من الضمير المستكن في الظرف، و « حيران » مؤنثة « حيرى »، فلذلك لم يَنْصَرِفُ، والفعل حَارَ يَحَارُ حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورةً، و « الحيران » المُتَرَدِّدُ في الأمر لا يهتدي إلى مَخْرَجٍ.
وفي اشتقاق « اسْتَهْوَتْهُ » قولان :
الأول : أنه مشتق من الهُوِيِّ في الأرض، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة [ السافلة ] العميقة [ في قعر الأرض ] فشبه الله تعالى حال هذا الضَّالِّ به، كقوله :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء ﴾


الصفحة التالية
Icon