وقولُه تعالى :﴿ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ فيه وجهانِ :
أحدهما : أن النبيين إنما يحكُمون بالتورَاةِ لأجْلِهِمْ، وفِيمَا بَيْنَهُم، والمَعْنَى : يحكمُ بها النبيونَ الذين أسْلموا على الذين هَادُوا؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ [ الإسراء : ٧ ] أيْ : فعليْهَا : وكقوله :﴿ أولئك لَهُمُ اللعنة ﴾ [ الرعد : ٢٥ ] أيْ : عليهم.
وقيل : فيه حَذْفٌ كأنه قال : للذين هادُوا وعلى الذين هَادُوا فحذَفَ أحدهما اخْتِصَاراً.
والثاني : أنَّ المعنى على التقديم والتأخِيرِ، أيْ : إنَّا أنزلنَا التوراةَ فيها هُدًى ونُورٌ للذين هَادُوا يحكُمُ بها النبيونَ الذين أسْلَمُوا.
وتقدم تفسيرُ الربانيِّينَ، وأمَّا الأحبارُ فقال ابنُ عباس وابن مسعود [ رضي الله عنهما ] : هُمُ الفُقَهاءُ.
واختلفَ أهْلُ اللُّغَةِ في واحِدِهِ قال الفرَّاءُ : إنَّه « حِبْرٌ » بكسر الحاءِ وسُمِّيَ بذلك لمكان الحِبر الذي يُكْتَبُ به؛ لأنَّه يكونُ صاحبَ كُتُبٍ، وقال أبُو عُبَيْد :« حَبْر » بفتحِ الحاءِ، وقال اللَّيْثُ : هو « حَبْرٌ »، و « حِبْر » بفتح الحاء وكسرِهَا.
ونقل البَغوِيُّ : أنَّ الكسرَ أفْصَحُ، وهو العالِمُ المُحكِمُ للشَّيْء.
وقال الأصمعِيُّ : لا أدْرِي أهُوَ الحِبْرُ أو الحَبْرُ، وأنكرَ أبُو الهَيْثَمِ الكَسْرَ، والفراءُ « الفَتْحَ »، وأجاز أبُو عُبَيْد الوجْهَيْنِ، واختار الفَتْحَ.
قال قُطْربٌ : هو مِنَ الحبر الذي هو بمَعْنَى الجمالِ بفتح الحَاءِ وكسْرِهَا وفي الحديث « يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبَرهُ وسَبَرهُ » أي حُسْنُهُ وهَيْئَتُهُ، ومنه التَّحْبِيرُ أي : التحسينُ قال تعالى :﴿ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٠ ] أي : يَفْرَحُون ويزينونَ، وسُمِّيَ ما يكتبُ حبراً لتحْسِينهِ الخطَّ، وقيل : لتأثيره وقال الكِسَائِيُّ، والفرَّاءُ، وأبُو عُبَيْدَةَ : اشتقاقُهُ من الحِبْرِ الذي يُكْتَبُ به.
وقيل : الرَّبَّانِيُّونَ هاهُنَا مِنَ النَّصَارَى، والأحبارُ مِن اليهُودِ وقِيل : كلاهُمَا من اليُهودِ، وهذا يقتضي كون الربانيِّينَ أعْلَى حالاً مِنَ الأحبار، فيُشْبهُ أنْ يكونَ الربانِيُّون كالمجتهدينَ والأحبارُ كآحادِ العُلَماءِ.
قوله :« لِلَّذين هَادُوا » في هذه « اللاَّم » ثلاثةُ أقوالٍ :
أظهرُهَا : أنَّها متعلِّقةٌ ب « يَحْكُمُ »، فعلى هذا مَعْنَاها الاخْتِصَاصُ، وتشمل مَنْ يحكمُ لَهُ، ومن يحكمُ عليْه، ولهذا ادَّعَى بعضُهم أنَّ في الكلامِ حَذْفاً تقديرُه :« يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ للَّذينَ هَادُوا وعليْهِمْ » ذكره ابنُ عطيَّة وغيرُه.
والثاني : أنها متعلقة ب « أنْزَلْنَا »، أيْ : أنزلْنَا التوراةُ للَّذين هادُوا يحكم بها النَّبِيُّونَ.
والثالثُ : أنها متعلقةٌ بِنَفْس « هُدًى » أيْ : هُدى ونُورٌ للذين هادُوا، وهذا فيه الفَصْلُ بين المصَدْرِ ومعمُولِهِ، وعلى هذا الوجْهِ يجوزُ أنْ يكونَ « للذين هَادُوا » صفة لِ « هُدًى ونُورٌ »، أيْ : هُدًى ونُورٌ كائِنٌ للذين هادُوا وأوَّلُ هذه الأقوالِ هو المقصودُ.
قوله تعالى :« والرَّبَّانِيُّون » عطفٌ على « النبيُّونَ » أيْ :[ إنَّ الرَّبَّانِيِّين وقد تقدم تفسيرهم في آل عمران ] يحكمُونَ أيْضاً بمقْتضَى مَا فِي التَّوْرَاةِ.
قال أبُو البقاءِ :« وقِيل : الرَّبَّانيون » مَرْفُوعٌ « بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أي : ويحكُمُ الربانيونَ والأحبار بِمَا اسْتُحْفِظُوا » انتهى.


الصفحة التالية
Icon