وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعُولِ من أجْلِهِ، وجعل العامل فيه قوله تعالى :« آتيناه »، قال : وأنْ ينتصبا مفعولاً لهما لقوله :« وليحكم » كأنه قيل وللهدى وللموعظة آتيناه الإنجيل وللحكم.
وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون العامل فيه « قَفَّيْنَا » أي : قفينا للهدى والموعظة، وينبغي إذا جعلا مفعولاً من أجله أن يُقدَّر إسنادهما إلى الله - تعالى - لا إلى الإنجيل ليصح النصب، فإن شرطه اتحاد المفعول له مع عامله فاعلاً وزماناً، ولذلك لما اختلف الفاعل في قوله :﴿ وليحكم أهل الإنجيل ﴾ عُدِّي إليه باللام، ولأنه خالفه أيضاً في الزمان، فإن زمن الحكم مستقبل وزمن الأنبياء ماضٍ، بخلاف الهداية والموعظة، فإنهما مقارنان في الزمان للإيتاء.
و « للمقيمين » يجوز أن يكون صفة ل « موعظة »، ويجوز أن تكون « اللام » زائدة مقوية، و « المتقين » مفعول ب « موعظة »، ولم تمنع تاءُ التأنيث من عمله؛ لأنه مبنيٌّ عليها؛ كقوله :[ الطويل ]
١٩٧٠-.................. وَرَهْبَةٌ | عِقَابَكَ....................... |
وقرأ الضَّحَّاك بن مزاحم :« وهُدًى وموعِظَةٌ » بالرفع، ووَجْهُهَا أنها خبر ابتداء مضمر، أي : وهو هدى وموعظة.
فصل
قال ابن الخَطيبِ : هنا سؤالات :
الأول : أنه - تعالى - وَصَفَ عيسى ابن مريم بكونه مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وإنما يكون كذلك، إذا كان [ عمله على شريعة التوراة، ومعلوم أنه لم يكن ] كذلك فإن شريعة عيسى كانت مغايرة لشريعة موسى عليهما السلام، ولذلك قال تعالى في آخر هذه الآية :﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ ﴾ [ المائدة : ٤٧ ] فكيف الجمع بينهما؟
والجواب : كون عيسى ﷺ مصدقاً للتوراة، أقر بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى، وأنه كان حقًّا واجب العمل به قبل وُرُودِ النَّسْخِ.
الثاني : لم كرر كونه مصدقاً لما بين يديه؟
والجواب : ليس فيه تكْرَارٌ، إلا أنَّ في الأول أنَّ المسيح يصدق التوراة، وفي الثاني : الإنجيل يصدق التوراة.
الثالث : ما معنى وصفه الإنجيل بهذه الصفات الخمسة فقال « [ فيه ] هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين » ؟
والجواب :[ أن قوله ] « هدى » بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدَّالة على التوحيد والتنزيه، وبراءة الله عن الصاحبة والولد، والمثل والضد، وعلى النبوة والمعاد فهذا هو المراد بكونه هدى.
وأما كونه نوراً [ فالمراد به كونه بياناً للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف ].
وأما كونه هدى مرة أخرى، فلأن اشتماله على البشارة بمحمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولمّا كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله مرة أخرى تنبيهاً على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجاً إلى البيان والتقرير.
وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة، وإنما خصها بالمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بها كقوله ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ].