قلنا : هذا يفيد أنه إدْراكٌ أخَصُّ الرؤية، وإثبات الأخصَّ يوجب إثبات الأعِمِّ، أما نَفْيُ الأخَصِّ فلا يوجب نَفْيَ الأعَمِّ، فثبت أن البَيَانَ الذي ذَكَرْنَاهُ يبطل كلامهم، ولا يبطل كلامنا.
وثانيها : أن نقول : هَبْ أن الإدْراكَ يفيد عموم النَّفي عن كل الأشخَاصِ في كُلِّ الأحوال، فلا نُسَلِّمُ أنه يفيد نَفْي العموم، إلاَّ أن نَفْيَ العموم غير، وعموم النفي غيرن وقد دَلَّلْنَا على أن هَذَا اللَّفْظِ لا يفيد إلا نفي العموم، وبَيَّنَّا أن نَفْيَ العموم يوجب ثبوت الخُصُوصِ.
وأما قولهم : إن عَائِشَةَ تَمَسَّكَتْ بهذه الآية في نَفْي الرؤية، فنقول : معرفة مفرادات اللغة إنما تُكْتَسَبُ من علماء اللغة، فأمَّا كيفية الاسْتِدْلالِ بالدليل، فلا يُرْجَعُ فيه إلى التَّقْلِيدِ، وبالجملة فالدليل العَقْلِيُّ دَلَّ على أن قوله تعالى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ يفيد نفي العموم وثبت بصريح العَقْلِ أن نَفْيَ لعموم مُغَايِرٌ لعموم النَّفيِ، ومقصودهم إنما يَتِمُّ لو دلَّتِ الآية على عُمُومِ النفي، فَسَقَطَ كلامُهُمْ.
وثالثها : أن نقول : صيغة الجَمْعِ كما تُحْملُ [ على الاستغراق فقد تُحْمَلُ ] على المعهود السَّابق أيضاً، وإذا كان كذلك، فقوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ وهي الأحْدَاقُ وما دامتْ تبقى على هذه الصفات التي هي مَوْصُوفَةٌ به في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدرك الله تعالى إذا تَبَدَّلَتْ صِفَاتُهَا، وتغيَّرتْ أحوالها، فَلِمَ قلتم، إن حصول هذه التغيرات لا تدرك الله تعالى.
ورابعها : سَلَّمْنَا أن الأبْصَارَ لا تُدْرِكُ الله - تبارك وتعالى - فَلِمَ لا يجوز حصول إدراك الله تبارك وتعالى بِحَاسَّةٍ مُغَايِرَةٍ لهذه الحواسِّ، كما قال ضرار بن عمرو به، وعلى ها التقدير فلا يبقى بالتمسُّكِ بهذه الآية الكريمة فَائدةٌ.
وخامسها : هَبْ أن هذه الآية عامَّةٌ، إلاَّ أنَّ الآيات الدَّالَّة على إثبات رؤة الله تعالى خَاصَّةٌ والخَاصُّ مُقدَّمٌ على العام، وحينئذ ينتقل الكلام إلى أنَّ بيان أن تلك الآيات هل تَدُلُّ على حصول رؤية الله تعالى أم لا؟
وسادسها : أن نقول بموجب الآية الكريمة، فنقول : سلمنا أن الأبْصَارَ لا تدرك الله - تعالى - فمل قلتم : إن المُبْصرينَ لا يُدْرِكُونَ الله تعالى.
وأما الوجه الثاني فقد بَيَّنَّا أنه يمتنع حصول التَّمَدُّحِ بِنَفْي الرؤية لو كان تعالى في ذَاتِهِ بحيث تَمْتَنْعُ رؤيته، ثم إنه تبارك وتعالى يَحْجُبُ الأبصار عن رُؤيَتِهِ فَسَقَطَ كلامهم بالكلية، ثم نقول : إن النفي يمتنع أن يكون سَبَاً لحصول المَدْحِ والثناء، والعمل به ضروري، بل إذا كان النَّفْيُ دليلاً على حصول صِفَةٍ ثابتة من صفات المَدْحِ والثناء، فإن ذلك النَّفْيَ يوجب المَدْحَ.


الصفحة التالية
Icon