وأما قراءة ابن كثير، وأبي عمروا : فمعناها : دَارَسْتَ يا محمد غَيْرَكَ من أهْلِ الأخبار الماضية، والقرون الخالية حتى حَفِظْتَهَا قَفُلْتَهَا، كما حكى عنهم فقال :﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ﴾ [ النحل : ١٠٣ ].
وفي التفسير : أنهم كانوا يقولون : هو يُدَارِسُ سَلْمَانَ وعَدَّاساً.
وأما قراءة الباقين : فمعناها : حَفِظْتَ وأتْقَنْتَ بالدَّرْسِ أخبارَ الأوَّلين، كما حُكِيَ عنهم ﴿ وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ] أي : تكرر عليها بالدرس يحفظها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : وليقولوا أهل « مكة » حين تَقْرَأُ عليهم القرآن : ودَرَستْ تعلمت من يسارٍ وجبر، وكانا عَبْدَيْنِ من سَبي الروم قرأت علينا تَزْعُمُ أنه من عند الله.
حكى الواحدي في قوله : درس الكتاب قولين :
الأول : قال الأصمعيُّ : أصله من قولهم : درس الطعام إذا دَرَسَهُ دراساً، والدَّرْسُ الدِّيَاسُ بِلُغَةِ أهل « الشام »، قال : ودرس الكلام من هذا، أي : يدرسه فيخفُّ على لسانه.
والثاني : قال أبو الهيثم : درست الكتاب، أي : ذللته بكثرةِ القراءة خَفَّ حِفْظُهُ من قولهم : درست الثوب أدْرُسُهُ دَرْساً، فهو مَدْرُوسٌ ودَرِيسٌ، أي : أخْلَقْتُهُ، ومنه قيل للثوب الخلق : دريسٌ لأنه قد لان والدراسةُ الرياضة، ومنه درست السُّورة حتى حفظتها قال الواحدي : وهذا القول قريب مما قال الأصمعيُّ، بل هو نفسه لأن المعنى يعود إلى التَّذْليل والتَّلْيين.
وقرئ هذا الحرف في الشَّاذِّ عشر قراءات أخر فاجتمع فيه ثلاثة عشرة قراءة؛ فقرا ابن عباس بخلاف عنه، وزيد بن علي، والحسن البصري، وقتادة « دُرِسَتْ » فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الإناث، وفسَّرها ابن جنيِّ والزمخشري بمعنيين في أحدهما إشكال.
قال أبو الفتح :« يحتمل أن يُرَادَ عَفَتْ أو بَلِيَتْ ».
وقال أبو القاسم :« بمعنى قُرِئَتْ أو عُفِيَتْ ».
قال أبو حيَّان :« أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهِرٌ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّرَ القراءة متعدِّ، وأما » دَرَس « بمعنى بلي وانمحى فلا أحْفَظُهُ متعدياً، ولا وَجَدْنا فيمن وقَفْنَا على شعره [ من العرب ] إلا لازماً ».
قال شهاب الدين : لا يحتاج هذا إلى استقراء، فغن معناه لا يحتمل أن يكون متعدياً؛ إذْ حَدَيُهُ لا يتعدَّى فاعله، فهو ك « قام » و « قعد » فكما أنا لا نحتاج في مَعْرِفةِ قصور « قام » و « قعد » إلى استقراءٍ، بل نَعْرِفُهُ بالمعنى، فكذا هذا.
وقرئ « دَرَّسْتَ » فعلاً ماضياً مسدّداً مبيناً للفاعل المخاطب، فيحتمل أن يكون للتكثير، أي : دّرَّسْتَ الكُتُبَ الكثيرة ك « ذبَّحت الغنم »، و « قَطَّعْتُ الأثواب » وأن تكون للتَّعديَةِ، والمفعولان محذوفان، أي : دَرَّسْتَ غيرك الكتاب، ولي بظاهرٍ؛ إذ التفسير على خلافه.
وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مَبْنيُّ للمفعول، أي : دَرَّسَكَ غَيْرُكُ الكتب، فالتضعيف للتعدية لا غير.


الصفحة التالية
Icon