وذلك أنّ المُؤمنين كانُوا حَرِيصين على إيمانهم، وطامعين فيه إذا جَاءَت تلك الآيَة، ويتمنَّوءن مَجيئها، فقال- تعالىَّ- :﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ على مَعْنَى : أنكم لا تَدءرُوْنَ ما سَبَقَ عِلْمي بهم، أنهم لا يُؤمِنُون؛ ألا ترى إلى قوله :﴿ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ] انتهى.
قال شهاب الدِّين : بَسْطُ قوله إنَّهم كَانُوا يَطْمعُون في إيمانهم، ما جَاءَ في التَّفْسِير : أن المُشْركين قَالُوا لِرسُول الله ﷺ : أنْزِلَ عَلَيْنَا الآية الَّتي قال اللَّه فيها :﴿ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾ [ الشعراء : ٤ ] ونحن واللَّه نُؤمِن، فأنزل الله تعالى :« وما يُشْعِرُكُم » إلى آخرها وهذا الوَجْه : هو اخْتِيَار أبي حيَّان، فإنَّه قال :« ولا يَحْتَاج الكلام إلى زِيَادة » لاَ « ولا إلى هذا الإضْمَار، يعني حَذْفَ المَعْطُوف، ولا إلى » أنَّ « بِمَعْنَى : لعَّل، وهذا كلُّه خُرودٌ عن الظَّاهِر لغير ضَرُورة، بل حَمْلُه على الظَّاهِر أوْلى، وهو وَاضِحٌ سائغٌ، أي : وما يُشْعِرُكم ويُدْرِيكم بِمَعْرِفة انْتِفَاء إيمانهم، لا سَبِيل لَكُم إلى الشُّعُور بِهَا ».
السادس : أن « مَا » حَرْف نَفْي، يَعْني : أنه نَفى شُعُورهم بِذلكِ، وعلى هذا فَيُطْلَبُ ل « يُشْعركُمْ » فاعل.
فقيل : هو ضَمِير الله - تعالى - أضْمر للدَّلالة عَلَيْه، وفيه تكلُّف بعيد، أي :« وما يُشْعِركُم اللَّه إذا جاءت الآيات المُقْتَرحَة لا يُؤمِنُون ». وقد تقدَّم في البقرة كيْفِيَّة قِرَاءة أبي عَمْرو ل « يُشْعركم » و ﴿ يَنصُرْكُمُ ﴾ [ آل عمران : ١٦٠ ]، ونحوهما عند قوله :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ ﴾ [ البقرة : ٦٧ ]، وحَاصِلُها ثلاثة أوْجُه : الضَّمُّ الخَالِص، والاختلاس، والسُّكُون المحض.
وقرأ الجُمْهُور :« لا يُؤمنُون » بياء الغَيْبَة، وابن عامر، وحمزة بتاء الخِطَاب.
وقرأ أيضاً في الجاثية [ آية : ٦ ] ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ بالخِطَاب، واقفهُمَا عليها الكَسَائِي، وأبُو بكر عن عَاصِم، و الباقون : باليَاء للغَيْبَة، فتحصَّل من ذلك أنَّ ابْن عامرٍ، وحَمْزة يقرآن بالخِطَاب في المَوْضِعَيْن، وأن نَافِعاًن وابن كثير، وأبا عَمْرو، وحَفْصاً عن عَاصِم، بالغيبة في الموْضِعَيْن، وأنّ الكَسِائيّ، وأبا بكر عن عن عَاصِم : بالغَيْبَة هُنَا، بالخِطَاب في الجَاثِية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحْدى السُّورَتَيْن والآخر في أخرى.
فأما قِرَاءة الخِطَاب هُناَ : فيكون الظَّاهر من الخِطاب في قوله :« ومَا يُشْعِرُكُم » أنه للكُفَّار، ويتَّضح مَعْنَى هذه القِرَاءة على زيادة « لا » أي : ومَا يُشْعِرُكم أنكم تُؤمِنُون، إذا جَاءَت الآيَات الَّتِي طَلَبْتُمُوها كما أقْسَمْتُم عَلَيْه، ويتَّضحُ أيضاً على كون « أنَّ » بمعنى : لَعَلَّ، مع كون « لا » نَافِية، وعلى كَوْنِها عِلَّة بِتَقْدير : حذف اللاَّم، أي :« إنما الآيات عِنْدالله فلا يَأتِيكم بِهَا؛ لأنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون بها » ويتَّضِحُ أيضاً على كَوْن المَعْطُوف مَحْذُوفاً، أي :« وما يُدْرِيكم بعدم إيمَانِكم، إذا جاءَت الآيات أو وُقُوعه؛ لأن مَآل أمركم مُغَيِّبٌ عَنْكم، فكَيْفَ تُقْسِمُون على الإيمان عِنْد مَجِيئ الآيات؟ » وإنَّما يُشْكَل؛ إذا جَعَلْنا « أنَّ » معمولة ل « يُشْعِرُكم » وجَعَلْنَا « لا » : نافية غير زَائِدَة؛ إا يكون المَعْنَى :« وما يُدْرِيكم أيُّهَا المُشْرِكون بانْتِفَاء إيمانكم، إذا جَاءَتْكم »، ويَزُول هذا الإشْكَال بأنَّ المَعْنَى :« وما يُدْريكم أيُّها المُشْرِكون بانْتِفَاء إيمانِكم، وإذا جَاءَتْكم »، ويَزُول هذا الإشْكَال بأنَّ المَعْنى : ايُّ شَيءْ يُدْرِيكم بِعَدم إيمانِكُم، إذا جَاءَتْكم الآيَات الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوها؟ يعني : لا يمرُّ هذا بِخَواطِرِكم، بل أنْتُم جازِمُونَ بالإيمان عند مجيئها، لا يَصْدُّكم عَنْه صادٌّ، وأ، ا أعْلَمُ أنكم لا تُؤمِنُون وَقْت مَجِيئها؛ لأنكم مَطْبُوع على قُلُوبكُم.