[ طه : ٧٧ ] وفي كُلِّ ذلك تَاويلات سَتَقِف عَلَيْها - إن شاء الله تعالى - فتلكن هذه القراءة الشَّاذَّى مثل هذه المَوَاضِع، والقولُ بكون لام « لتصغى » لام « كَيْ » سُكِنت؛ لِتَوالي الحَرَكات واللاَّمين بَعْدَها لامَيْ أمْر بعيدٌ وتَشَهٍّ.
وقال النَّحَّاس : ويُقْرأ :« ولْيَقْتَرِفُوا » يعني بالسُّكُون، قال :« وفيه مَعْنى التَّهْديد ».
يريد : أنَّه أمر تَهْديد؛ كقوله :﴿ اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] ولم يحك التَّسْكِين في « لِتَصْغَى »، ولا في « لِتَرْضَوه ».
و « مَا » في « ما هم مُقْتَرِفون » مَوْصُولة اسميَّة، أو نكرة مَوْصُوفة مصدريَّة، والعَائِد على كلا القولَين الأولين مَحْذُوف، أيك « ما هم مُقْتَرِفُوه ».
[ و ] قال أبُو البقاء :« وأثبت النُّون لما حُذِفَت الهاء » يريد : أن الضَّمير المتَّصِل باسم الفاعل المُثَنًّى والمجموع على حَدِّه، تُحْذَفُ له نُون التَّثْنِيَة والجمع، نحو :« هَذَانِ ضَارِبَاه » و « هؤلاء ضَارِبُوه » فغذا حذفَ الضَّمِير، وقد ثَبَتت؛ قال القائل :[ الطويل ]

٢٢٩٥- وَلَم يَرْتَقِقْ والنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ جَمِيعاً وأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُهْ
وقال القائل في ذلك :[ الطويل ]
٢٢٦٩- هُمُ الفَاعِلون الخَيْرَ والآمِرُونَهُ .........................
والاقْتِرَاف : الاكْتِساب، واقترف فُلان لأهْله، أي : اكْتَسَب، وأكثر ما يُقَال في الشَّرِّ والذَّنْب، ويطْلَق في الخَيْر، قال - تعالى - ﴿ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ﴾ [ الشورى : ٢٣ ].
وقال ابن الأنْبَارِيِّ :« قَرَفَ واقْتَرَفَ : اكتسب » وأنْشَد في ذلك :[ الطويل ]
٢٢٩٧- وإنِّي لآتٍ مَا أتَيْتُ وَإنِّنِي لِمَا اقْتَرَفَت نَفْسِي عَلَيَّ لَرَاهِبُ
وأصل القِرْفِ والاقْتِرَاف : قِشْرُ لحاء الشَّجر، والجِلْدَةُ من أعَلَى الحرج وا يؤخَذُ منه قَرف، ثُمَّ استُعِير الاقْتِرَاف للاكْتِسَاب حَسَناً كان، أو سِّئاً وفي السيّئ أكثر اسْتِعْملاً وقارف فلان أمْراً : تَعَاطى ما يُعَاب به.
وقيل : الاعْتراف يُزِيل الاقْتِرَاف، ورجل مُقْرِف، أي : هجين : قال الشَّاعر :[ الرمل ]
٢٢٩٨- كَمْ بِجُودٍ مُقْرِفٍ نَالَ العُلَى وشَريفٍ بُخْلُهُ قَدْ وَضَعهْ
وقَرَفْتُه بكذا : اتَّهَمْتُه، أو عِبْتُه به، وقارف الذَّنْب وعَبَره، إذا أتَاه ولا صقَهُ، وقارف امْرَأتَهُ، وإذا جَامَعها، والمُقْتَرِف من الخَيْل : الهَجِين، وهو الَّذي أمُّه برذون، وأبُوه عَرَبِيّ.
وقيل : بالعَكْس.
وقيل : هُو الَّذي دان الهجنة وقَارَفَها، ومن حَدِيب عُمَر - رضي الله عنه - : كتب إلى أبِي مُوسى في البَراذِين ما قَارفَ العِتَاق مِنْهَا، فأجْعَل لَهُ منهما واحٍداً، أي : قَارَبَهَا ودَانَاهَا، نقله ابن الأثير.

فصل في تقدير الآية


قال ابن الخِطِيب [ قال أصْحَابنا ] تقدير الآية الكَرِيمة : وكذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نِبِيِّ عدوّاً من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس، وصفته : أنَّه يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْض زُخْرُف القَوْل غَرُواً، وإنَّما فَعَلْنا ذلك لِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدة الذين لا يُؤمِنُون بالآخرة أي : أوْجدنا العداوة في قَلْب الشَّيَاطين الذين من صفتهم ما ذَكرْنَاهُ، ليكون كلامهم المُزَخْرَف مَقْبُولاً عند هؤلاء الكُفَّار.
قالوا : وإذ حَمَلْنا الآية على هذا الوَجْه، يظهر أنَّه - تبارك وتعالى - يُريد الكُفْر من الكَافِر.


الصفحة التالية
Icon