في « أعلم » قولان :
أحدهما : أنَّها ليست للتَّقْضِيل، بل بِمَعْنَى اسم فاعل في قوتهن كأنه قيل : إن ربَّك هو يَعْلَم.
قال الواحدي - رحمها لله- :« ولا يجوز ذلك؛ لأنَّه لا يطَابِق : وهو أعْلَم بالمُهتَدين ».
والثاني : أنَّها على بابها من التَّفْضِيل، ثم اختلف هؤلاء في محلِّ « مَنْ » : فقال بعض البصْريِّين : هو جَرٌّ بحرف مُقَدَّر حُذِف وبقي عمله؛ قولة الدَّلالة عليه بِقَوْله :« وهو أعْلَمُ بالمُهْتَدين » وهذا ليس بِشَيء؛ لأنه لا يُحْذَف الجَارُّ ويبقى أثَرُه إلا في مواضع تقدَّم التَّنْبِيه عليها، ما ورد بخلافها، فضرورةٌ؛ كقوله :[ الطويل ]

٢٢٩٩-........... أشَارَتْ كُلَيْبٍ بالأكُفِّ الأصَابِعُ
وقوله :[ الكامل ]
٢٣٠٠-............. حَتَّى تَبَذَّخَ فارْتَقَى الأعلامِ
الثاني : أنَّها في محلِّ نَصْب على إسْقاط الخَافِض؛ كقوله :[ الوافر ]
٢٣٠١- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ ولَمْ تَعوجُوا ...............
قاله أبُو الفَتْح. وهو مَردُودٌ من وجهين :
الأول أن ذلك لا يطَّرِد.
الثاني : أن أفْعَل التَّفْضِيل لا تَنْصِبُ بِنَفْسِها؛ لضَعْفها.
الثالث : وهو قَوْل الكُوفيين - أنّه نصب بنفس أفْعَل، فإنها عندهم تَعْمل عمل الفِعْل.
الرابع : أنها مَنْصُوبة بِفعل مُقَدَّر يدل عليه أفْعَل، قاله الفَارسيُّ؛ وعلي خَرَّج قول الشاعر :[ الطويل ]
٢٣٠٢- أكَرَّ وأحْمَى لِلْحَقيقةِ مِنْهُمُ وأضْرَبَ مَنَّا بالسُّيُونفِ القَوَانِسَا
ف « القوانِس » نُصِب بإضمار فعلٍ، أي : يَضْرِبُ القَوانِسَ؛ لأن أفَعَل ضَعِيفة كما تقرَّر.
الخامس : أنَّها مَرْفُوعة المحلِّ بالابْتِداء، و « يَضِل » : خَبَره، والجُمْلَة مُعَلِّقة لأفْعَل التَّفْضِيل؛ فهي محلِّ نَصْب بها؛ كأنه قيل : أعلم أيُّ النَّاسِ يَضِل كقوله :﴿ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى ﴾ [ الكهف : ١٢ ]، وهذا رأي الكسائِي، والزَّجَّاج، والمُبَرِّد، ومَكّي، وإلاا أن أبا حيَّان ردَّ هذا؛ بان التَّعْلِيق فرع ثُبُوت العمل في المَفْعُول به، وأفْعَل لا يَعْمل فيه، فلا يُعَلَّق.
والرَّاجِح من هذه الأقْوَال : نَصْبُها بمضمر، وهو قول الفَارسيِّ، وقواعد البصريين مُوافِقَةٌ لَه، ولا يَجُوز ان تكون « مَنْ » في محلِّ جرِّ بإضافة أفْعل إليْها؛ لئلاً يلزم مَحْذُور عَظِيم، وذلك أنَّ أفعل التَّفْضِيل لا تُضَاف إلاَّ إلى جنْسِها، فإذا قُلْتَ :« زَيْد أعْلَم الضَّالِّين » لَزِم أن يكون « زَيْد » بَعْض الضَّالِّين، أي : مُتَّصِفٌ بالضَّلال، فهذا الوَجْه مُسْتَحيل في الآية الكريمة، وهذا عند من قرأ « يَضِلُّ » يفتح حَرْف المُضارعة، أمَّا من قرأ بضمِّه :« يُضِلّ » - وهو الحسن، وأحمد بن أبي سُرَيْج-، فقال أبُو البقاءِ :« يجُوز أن تكون » مَنْ « في موضع جرِّ بإضافة » أفعل « » إليها «.
قال :»
إمَّا على مَعْنَى : هو أعْلَم المُضِلِّين، أي : من يجد الضَّلال وهو من أضْلَلْتُه، أي : وَجَدْته ضالاً؛ مثل أحْدَتُه، أي : وَجَدته مَحْمُوداً، أو بِمَعْنى : أنه يَضِلُّ عن الهدى «.


الصفحة التالية
Icon