في هذه الفَاءِ وجهان :
أحدهما : أنَّها جواب شَرْط مُقدَّر.
قال الزَّمخْشَريُّ بعد كلام : فقيل للمُسْلِمِين : إن كُنْتم مُتَحَقِّقِين بالإيمان، فكُلوا [ وذلك أنَّهم كانوا يَقُلون للمُسْلِمين : إنَّكم تَزْعُمون أنَّكم تَعْبُدُون اللَّه، فما قتله الله أحَقُّ أن تَأكُلُوا ممَّا قَتَلْتُمُوه أنْتُم، وقال الله - تعالى - للمسلمين :﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ ﴾.
والثاني : أنها عَاطِفَة على مَحْذُوف.
قال الواحدي :« ودخَلَت الفاءُ للعطْف على ما دلَّ عليه أوَّل الكلام، كأنه قِيل : كونوا على الهُدَى، فكُلُوا ». والظَّاهر : أنَّها عَاطِفة على ما تقدَّم من مَضْمُون الجُمَل المُتقدّمَة كأنه قيل :« اتَّبِعُوا ما أمركُم اللَّه تعالى من أكْلِ المُذَكَّى دون الميتة، فكُلُوا ».
فإن قيل : إنهم كَانُوا يُبيحُون أكْل ما ذُبِح على اسْمِ اللَّه - تعالى -، ولا يُنَازعون فيه، وإنما النِّزاع في أنَّهم أيْضاً كَانُوا يُبِيحُون أكْل الميتة، والمُسْلِمُون كَانُوا يَحْرِّمُونها، وإذا كان كذلك، كان وُرُود الأمْر بإبَاحة ما ذُكِر اسم الله عليه عِبْئاً، لأنَّه يقتضي إثْبَات الحُكْم في المتَّفْقِ عليه، وترك الحُكْم في المُخْتَلِف فيه.
فالجواب : لعلَّ القوم يحرِّمُون أكْل المُذَكَّاة، ويُبِيحُون أكْل المَيْتَة، فاللَّه- تبارك وتعالى - ردَّ عليهم في الأمْرَيْن، فحكم بحلِّل المُذَكَّاة بقوله :﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ ﴾ وبتحريم المَيْتَة بقوله :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٢١ ] أو يُحْمل قوله :﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ ﴾ على أن المُرَاد : اجْعَلوا أكْلَكُم مقصوراً على ما ذكر اسْمُ الله عليه، فيكون المَعْنَى على هذا الوجه، تَحْرِيم أكْل المَيْتَة فقط.
قوله :« ومَا لَكُمْ » مُبْتَدأ وخبر، وقوله :« ألاَّ تَأكُلوا » فيه قولان :
أحدهما : هو حَذْف حَرْف الجرِّ، أيك أيُّ اسْتَقَرَّ في مَنْع الأكْل ممَّا ذكر اسْم اللَّه عليه؛ وهو قول أبي إسْحَاق الزَّجَّاج فلما حُذِفَتْ « في » جَرَى القولان المَشْهُوران، ولم يذكر الزَّمَخْشَرِيُّ غير هذا الوجه.
الثاني : أنَّها في محل نَصْبٍ على الحالِ، والتَّقْدير : وأيُّ شَيْء لَكُم تَاركين للأكْل، ويؤيِّد ذلك وُقوع الحالِ الصَّريحة في مِثْل التَّركيب كَثِيراً، نحو :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ] إلاَّ أن هذا مَرْدُود بِوَجْهَيْن :
أحدهما : أنَّ « أنْ » تُخَلِّص الفِعْل للاسْتِقْبَال، فكيف يَقَعُ ما بَعْدَها حالاً؟
والثاني : أنَّها مع ما بعدها مُؤوَّلة بالمصدر، وهو أشْبَه بالمُضْمَرَات كما تقدَّم تحريره، والحال إنَّما تكُون نكرة.
قال أبُو البقاء : إلاَّ أن يُقَدَّر حَذْفُ مُضاف، فَيَجُوز، أي :« وما لَكُم ذَوِي ألا تَأكلوا » وفي تَكَلُّ، فمفعول « تَأكُلُوا » مَحْذوف بَقِيتْ صفَته، تقديره :« شَيْئاً مما ذُكِر اسْمُ اللَّه » ويجُوز ألاَ يُراد مَفْعُول، بل المُراد : ومَال لكُم ألا يقع منكم الأكْل، وتكون « مِنْ » لابْتِدَاء الغَاية، أي : أن لا تَبْتَدِئُوا بالأكْل من المَذْكُور عليه اسم اللَّه، وزُعِم، أنَّ « لاَ » مَزِيدة، وهذا فَاسِدٌ؛ إذا لا داعِي لِزيَادتها.