ونَصْبُه على القراءتَيْن : إمَّا على كونِهِ نَعْتاً ل « ضَيِّقاً »، وإمَّا على كَوْنه مَفْعُولاً به تعدَّد، وذلك أنَّ الأفْعَال النَّواسِخَ إذا دَخَلَت على مُبْتَدأ وخبر، كان الخبرانِ على حَالِهما، فكما يَجُوز تعدُّدُ الخبر مُطْلقاً أو بتَأويل في المبتدأ والخبر الصَّريحَيْن، كذلك في المَنْسُوخَيْن حين تَقُول :« زَيْدٌ كَاتِبٌ شَاعِرٌ فقيهٌ » ثم تقُول : ظنَنْتُ زيداً كِاتِباً شاعراً فِقِيهاً، فتقول :« زَيْداً » مَفْعُول أوَّل، « كاتباً » مَفْعُول ثانٍ، « شَاعِراً » مفعول ثالث، « فِقِيهاً » مَفْعُول رَابع؛ كما تَقُول : خبر ثانٍ وثالث ورابع ولا يَلْزَمُ من هذا أن يتعدًّى الفِعْل لثلاثة ولا أرْبَعَة؛ لأن ذلك بالنِّسْبَة إلى تَعَدُّد الألْفَاظِ، فلِيْس هذا كقول : في : أعْلَمْتُ زيداً عمراً فلاضلاً، إذا المَفْعُول الثُّالِثُ هناك لَيْس متكَرِّراً لشَيْء واحِدٍ؛ وإنما بَيًّنْتُ هذا لأن بَعْضَ النَّاسِ وهم في فَهْمِه، وقد ظَهَر لك ممَّا تقدَّم أن قوله :« ضيِّقاً حَرَجاً » لي في تكْرَار.
وقال مَكِّي :« ومعنى حَرِجٌ- يعني بالكَسْرِ- كمعنى ضيِّق، كرِّر لاخْتِلاف لفْظِه للتأكيد ».
قال شهاب الدِّين : إنما يكون للتَّأكيد حيث لم يَظْهَر بَيْنَها فَارِقٌ فَتَقُول : كُرِّر لاخْتِلاف اللًّفْظِ؛ كقوله :﴿ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٧ ] وكقوله :[ الوافر ]

٢٣٠٩-................ وَألْقَى قَوْلَهَا كَذِباً ومَيْنَا
وقوله :[ الطويل ]
٢٣١٠-................. وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وأما هُنَا فقد تقدَّم الفَرْقُ بالعُمُوم والخُصُوص أو غير ذَلِك.
وقال أبو البقاء :« وقيل : هو جَمْع » حَرَجَة « مثل قصبة وقَصَب، والهاءُ فيه للمُبالغَة ».
قال شهاب الدين :« ولا أدْري كَيْفَ توهَّم كَوْنَ هذه الهاء الدَّالَّة على الوَحْدَةِ في مُفْرِدَ أسْمَاء الأجْنَاسِ؛ كثمرة وبُرَّة ونَبِقَة للمُبالغة، كِهِي في رَوايةٍ ونَسَّابَة وفرُوقة؟

فصل في الدلالة من الآية


تمسَّك أهل السُّنَّةِ بهذه الاية الكَريمة في أن الهِدَاية والضَّلال مِنَ اللَّه - تعالى -؛ لأن لَفْظَهَا يدلُّ على المسألةِ، ويدل على الدَّليل العَقْلِيّ المقتدّم في المسألةِ وهو العِلْمُ والدَّاعِي، وبيانُه أن العَبْد قَادِرٌ على الإيمانِ والكَفْر، وقُدْرَتُه بالنِّسْبَة إلى هَذَيْن الأمْرَيْن على السَّويَّة، فيمتنع صُدُور الإيمان عَنْهُ بدلاً من الكُفْر، أو الكُفْر بدلاً من الإيمانِ، إلاَّ إذا حَصَلَ في القَلْبِ دَاعِيَةٌ إلَيْه، وتلك الدَّاعِيةُ لا مَعْنَآ لها، إلاَّ عِلْمُه أو اعتِقَادُه أو طَنُّه بِكَون ذلك الفِعْلِ مُشْتِمَلاً على مَصْلَحةٍ زائدة، ومَنْفَعَةٍ رَاجَحَة، فإذا حصل هذا المَعْنَى في قِلْبِهِ، دَعَاه ذَلِكَ إلى فِعْل ذلك الشَّيْء، وإن حَصَلَ في القَلْب عِلْمٌ أو اعْتِقَادٌ أوْ ظَنٌّ بكون ذلك الفِعْلِ مُشْتَملاً على مَفْسِدة رَاجِحَةٍ وصُور زَائِدَة، دَعَاه ذَلِك إلى تركه، وثبت أن حُصُولَ هذه الدًّواعِي لا بُدَّ وأن تَكُون من اللَّهِ- تعالى، وإذا ثَبَتَ ذَلِك فنقول : يَسْتحِيلُ أن يَصْدُر إيمانُ عن العبْد إلاَّ إذا خَلَق اللَّهُ في قَلْبِهِ اعْتِقَاد أنَّ الإيمان رَاجِح المَنْقَعَةِ، زائد المَصْلَحَةِ، فحينئذٍ يميل قَلْبُهُ وتَرْغَب نَفْسُه في تَحْصِيله، وهذا هو انْشِرَاحُ الصَّدرِ للإيمان، فإن حَصَلَ في القَلْبِ أنَّه مَفْسدةٌ عَظِيمَةٌ في الدِّين والدُّنْيَا، وأنه يُوجِب المَضَار الكَثِيرَة، فحينئذ يَتَرتَّب على هذا الاعْتِقَاد نَفْرَة عَظِيمةَ عن الإيمان، وهذا هُوَ المُرَادُ من أنَّه - تبارك وتعالى - يَجْعَل صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً.


الصفحة التالية
Icon