﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً ﴾ [ الجن : ٦ ].
وقيل : استِمْتَاعُ الإنْس بالجِنِّ ما كَانُوا يلْقثون غلأهيم من الأرَاجِيفِ، والسِّحْرِ والكَهَانَةِ، وتزيينهم لهم الأمور التي يَهْوُونَها، وتَسْهيل سَبيلِها عليهم، واستِمْتَاع الجن بالإنْس طاعة الإنْسِ لهم فيما يُزيِّنُون لَهُمْ من الضَّلالة والمَعَاصِي.
وقال محمد بن كَعْبٍ القُرَظيك هو طاعةُ بعضِهِمْ بَعْضاً، وقيل : قوله :« ربِّنَا اسْتَمْتَع بَعْضُنَا بِبَعْض » كلام الإنْس خَاصَّة.
قوله :﴿ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا ﴾ قرأ الجمهور :« أجَلَنا » بالإفْرَاد؛ لقوله :« الَّذِيط وقُرِئ :» آجَالَنا « بالجَمْع على أفْعَال » الَّذِي « بالإفْرَاد والتَّذْكير وهو نَعْتُ للجَمْعِ.
فقال ابو عَلِيّ : هو جنْس أوقع » الَّذِي « مَوْقِع » الَّتِي «.
قال أبو حيَّان : وإعْرابه عِنْدِي بدل؛ كأنه قيل :» الوَقْتُ الَّذِي « وحينئذٍ يكون جِنْساً ولا يَكُون إعْرَابُه نَعْتاً؛ لعدم المُطابَقَة بينَهُمَا، وفيه نَظَر؛ لأن المُطَابقة تُشْتَرطُ في البَدَلِ أيْضاً، وكذلك نصُّ النُّحَاة على قَوْل النَّابِغة :[ الطويل ]٢٣١٣- تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَأ فَعَرَفْتُهُا | لِسِتًّةٍ أعْوَام وَذَا العَامُ سابعُ |
رَمَادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ لأياً أبِينُهُ | وَنُوي كجذْم الحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ |
أي : رماد ونَوَى مَقْطُوعان على » هما رمادٌ ونوى « لا بدل من آياتٍ لِعَدم المُطابَقَة، ولِذلكِ لم يُرْوَيَا إلاَّ مرْفُوعَيْن لا مَنْصُوبَيْن.
فصل في المراد بالآية
معنى الآية : أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجَلٍ معيَّن ووقْتٍ مَحْدودٍ، ثمَّ جَاءَت الخَيْبَة والحَسْرَة والنَّدامَة من حَيْيُ لا دَفعن واخْتَلَفُوا في ذَلِك الأجَلِ.
فقيل : هو وقْتُ الموْتِ.
وقيل : هو وَقْتُ البَعْثِ والقِيامة، والَّذين قَالُوا بالقَوْل الأوَّل قالوا : إنه بَدَلٌ على أن كُلِّ من مَاتَ من مَقْتُول وغَيْرِه، فإن يَمُوتُ بأجَلِهِ؛ لأنهم أقَرُّوا بأنَّا بلغْنَا أجَلَنا الَّذِي أجَّلْت لنان وفيهم المَقْتُول وغير المَفْتُول، ثم قال - تعالى- :» النَّارُ مَثْوَاكُم « أي : المَقَام والمَقرّ والمَصِير.
قوله :» خَالِدينَ فِيَهَا « مَنْصُوبُ على الحالِ، وهي حالٌم مُقَدَّرة، وفي العامل فيها ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أنه مَثْواكم » لأنه هُنَا مَصْدرٍ لا اسم مكان، والمعنى : النَّارُ ذات تُوائِكُم، أي :« النَّار مَكَان ثُوَائِكُم » أي : إقامتكُم.
قال الفَارسِيُّ :« المَثْوى عِنْدي في الآية : اسْمٌ للمصْدرِ دون المكان؛ لحُصُول الحالِ مُعْمَلاً فِيهَا واسْمُ المكانِ لا يَعْمَل علم الفِعْلِ؛ لأنه لا مَعْنَى للفِعْل فيه، وإذا لم يَكُون مَكَاناً، ثبت أنَّه مَصْدر، والمَعْنَى :» النَّار ذاتِ إقامَتِكُم فيها خَفْضاً بالإضَافة؛ ومثله قول الشاعر :[ الطويل ]
٢٣١٤- ومَا هي إلاَّ في إزَارِ وعِلْقَةٍ | مَغَارَ ابْنِ هَمَّام عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا |
وهذا يدلُّ على حَذْفِ المُضافِ، المعنى :
« ومَا هِي إلا إزَارٌ وعِلْقَةٌ وقت إغَارَة ابن همَّام »، ولذلك عدَّاه ب
« عَلَى » ولو كان مَكَاناً، لما عدَّاه؛ فثَبَت أنَّهُ اسْمُ مصدر لا مَكَان، فهو كقولك :
« آتِيكَ خُفُوقَ النَّجْم ومَقْدِم الحَاجِّ »، ثم قال
« وإنَّما حَسُن ذَلِك في المَصَادِر لمُطَابقتِهَا الزَّمان، ألا ترى أنَّه مُنْقض غير باقٍ كما أنَّ الزِّمان كَذَلِك ».