التاسع : أن يكون في مَوْضِع رفع بالفَاعِليَّة بالجَارِّ قبلها، وهو ظَاهِر قول ابن الأنْبارِيِّ المتقدِّم، والتقدير : استَقَرَّ عليكم عَدَم الإشْرِاك.
وقد تحصَّلت في محلِّ « ألاَّ تُشْرِكُوا » على ثلاثة أوْجُه : الرَّفْع، والنَّصْب، والجرِّ : فالجَرُّ من وجْه واحدٍ، وهو أن يكُون على حَذْفِ حَرْف الجرِّ على مَذْهِب الخَلِيل والكسَائيّ، والرفع من ثلاثة أوْجُه، والنَّصْبُ من سِتَّة أوْجُه، فمجموع عَشَرة أوْجُه تقدم تَحْرِيرُها.
و « شيئاً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَفْعُول به.
والثاني : أنه مصدر، أي : إشْرَاكاً، أي : شَيْئاً من الإشْرَاكِ.
وقوله :﴿ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ تقدم تَحْرِيره في البقرة [ الآية ٨٣ ].
قوله - تعالى - ﴿ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ الإحْسَانُ إلى الوالِدَيْن : بِرُّهُما وحِفْظُهما، وإمْتِثَال أمرهما، وإزالة الرِّقِّ عَنْهُما، و « إحْسَانَا » نصْب على المصْدر، وناصِبُه فعل مُضْمَر من لَفْظِه، تقديره : وأحْسِنُوا بالوالدَيْن إحْسَاناً.
قوله :« مِنْ إمْلاقٍ » « مِنْ » سَبَيَّة متعلِّقة بالفِعْل المَنْهِيِّ عنه، أي :« لا تَقْتُلوا أوْلادَكُم لأجْل الإمْلاقِ ».
والإملاق : الفَقْر في قول ابن عبَّاس.
وقيل : الجوع بلغة « لخم »، نقله مؤرج.
وقيل : الإسْرَاف، أمْلق أي : أسْرف نَفَقَتِه، قال محمد بن نعيم اليزيدي.
وقيل : الإنْفَاق، أملق ماله أي : أنفقه، قال المُنْذِر بن سَعِيد، والإملاق : الإفْسَاد أيضاً، قاله [ شمر ] قال :« وأمْلَقَ يكون قَاصِراً ومتعدِّياً، أملق الرَّجُل : إذا افْتَقَر هذها قَاصِرن وأمْلَق ماعِنْدَه الدَّهْر، أي : أفْسَدَه » وأنشد النَّضْر بن شيمل على ذلك قَوْل أوْسِ بن حَجَر :[ الطويل ]
٢٣٨١- ولمَّا رَأيْتُ العُدْمَ فَيَّدَ نَائِلِي | وَأمْلَقَ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تَنَبَّلُ |
وفي هذه الآية الكريمة قال : طنحن نَرْزُقُكم وإيَّاهُم « فقدَّم المُخَاطبين، وفي » الإسراء « : قدّم ضَمِير الأولاد عليهم : فقال :» نحن نَرْزُقُهُم وإيَّاكُم « فقيل : للتَّفَنُّنِ في البلاغة.
وأحسن منه أن يقال : الظَّاهِر من قوله :» مِنْ إمْلاقٍ « حصُول الإمْلاق للوَالِد لا توقُّعُه وخشْيَتُه، فبُدِئ أوَّلاً بالعَدَةِ برزق الآبَاء؛ بشَارة لَهُم بزَوَال ما هُم فيه من الإمْلاق.
وأمّا في آية » سبحان « [ الإسراء : ١ ] فظاهرها أنهم موسرون وإنما يخشون حُصُول الفَقْر؛ ولذلك قال : خَشْيَةَ إمْلاق، وإنما يُخْشَى الأمُور المُتَوَقَّعَة، [ فبدأ فيها بِضَمَان رِزْقَهم، فلا مَعْنَى لقتلكم إيَّاهم، فهذه الآية تُفِيد النَّهْي ] للآباء عن قَتْل الأولاد، وإن كانوا مُتَلَّبِّسِين بالفَقْر، والأخْرَى عن قَتْلِهم وإن كانوا مُوْسِرين، ولكن يَخًافُون وُقُوع الفَقْر، وإفادة معنى جَدِيدٍ أوْلى من ادِّعاء كون الآيَتَيْنِ معنى واحدٍ للتَّأكِيد.
فصل في حكم العزل
قال القرطبي : استدل بَعْضُهم بهذه الآية الكريمة على منع العَزْلِ؛ لأن قتل الأولادِ رفع للمَوْجُود، والعَزْل منعٌ لأصْل النَّسْل فتشابهان إلا أن قَتْل النَّفْس أعظمُ وِزْراً، وأقبحُ فِعْلاً، ولذلك قال بعض العلماء : إنه يُفْهم من قوله- ﷺ - :» لا عَلَيْكُم في العَزْل الوَأد الخَفِيّ « الكراهة لا التَّحْرِيم، وقال به جماعة من الصَّحابة وغيرهم، وقال بإبَاحَتِه أيضاً جماعة من الصَّحابة والتَّابعين والفُقَهاء؛ لقوله - ﷺ - :» لا عَلَيْكُم ألاَّ تَفْعَلُوا فإنِّمَا هُو القَدَر « أي : ليس عَلَيْكُم جُنَاحٌ في ألا تَفْعَلُوا ».