قوله :« وَإنْ كُنَّا » [ « إنْ » ] مُخَفَّفَة من الثِّقِيلة عند البَصْريِّين، وهي هُنَا مُهْمَلة؛ ولذلك وَلِيتها الجُمْلة الفِعْليَّة، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وأنَّ الكوفيِّين يَجْعَلُونها بمعنى :« ما » النَّافية، واللام بمعنى :« إلاَّ »، والتقدير : ما كُنَّا عن دِرَاسَتِهم إلاَّ غافِلِين.
وقال الزَّجَّاج بِمْثِل ذلك، فَنَحا نحو الكوفيِّين.
وقال قُطْرُب :« إنْ » بمعنى « قَدْ » واللاَّم زَائِدة.
وقال الزَّمَخْشَري بعد أن قَرَّر مذهب البصريين كما قدَّمنا :« والأصْل : إنه كُنَّا عن عِبَادَتِهِم » فقدّر لها اسْماً مَحْذُوفاً، هو ضمير الشَّأن، كما يُقَدِّر النَّحْويُّون ذلك في « أنْ » بالفَتْح إذا خُفِّفَت، وهذا مخالفٌ لِنُصُوصِهِم، وذلك أنَّهم نَصُّوا على أنَّ :« إنْ » بالكَسْر إذا خُفِّفَت، ولِيَتْهَا الجُمْلَةُ الفعليةُ النَّاسِخة، فلا عَمَل لها، لا في ظاهرٍ ولا مُضْمرٍ.
و « عَنْ دِرَاسَتِهِم » متعلِّق بخبر « كُنَّا » وهو :« غافلين » وفيه دلالة على بُطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى :« إلاَّ » ولا يَجُوز أن يَعْمَل ما بعد « إلاَّ » فيما قَبْلَها؛ فكذلك ما هو بِمَعْنَاها.
قال أبو حيَّان :« ولَهُم أن يَجْعَلُوا » عَنْها « متعلِّقاً بمحذوف » وتقدَّم أيضاً خلاف أبي عليِّ، في أنَّ هذه اللاَّم لَيْسَت لام الابتِدَاء، بل لامٌ أخْرَى، ويدلُّ أيضاً على أن اللاَّم لام ابتداء لَزِمتِ للفَرْق، فجَازَ أن يتقدَّم مَعْمُولُها عليها، لمّا وقعت في غَيْر ما هُو لَهَا أصل، كما جاز ذلك في :« إنَّ زيداً طعامك لآكِلٌ » حَيْث وقعت فيغير ما هُوَ لَهَا [ أصلٌ ] ولمْ يَجُزْ ذلك فيهَا إذا وقعت فيما هُوَ لَهَا أصْلٌ، وهو دُخُولها على المُبْتَدأ.
وقال أبُو البقاءِ واللاَّم في « لغَافِلِين » عِوض أو فَارِقَة بَيْن « إنْ » و « ما ».
قال شهاب الدين : قوله :« عِوَض » عبارة غَريبَةٌ، وأكثر ما يُقَال : إنها عِوَضٌ عن التَّشْديد الَّذِي ذَهَبَ من « إنْ » ولَيْس بِشَيء.
فصل في معنى الآية
قال المفَسِّرُون :« إنْ » هي المُخَفَّفَة من الثّقِيلة، واللاَّم هي الفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا وبين النَّافيَة، والأصْل : وإن كُنَّا عن دِرَاستِهِم غَافلين، والمعنى : إثْبَات الحُجُّة عليهم بإنْزَال القُرْآن عَلَيْهم، وقوله :﴿ وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾ أي : لا نَعْلَم مَاهِيَ، لأن كِتَابَهُم لَيْس بِلُغَتِنَا.
قوله :﴿ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ ﴾.
أي : لِئلاَّ تقُولُوا أو تَحْتَجُّوا بِذَلك، ثمَّ إنه - تعالى - قطع احتِجَاجَهُم بهذا، فقال :﴿ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ وهو القُرْآن العظيم بَيِّنَة فيما يُعْلم سَمْعاً، وهُو هُدَى فيما يُعْلَم سَمْعاً وعَقْلاً، فلما اختلفت الفَائِدَة، صَحَّ هذا العَطْف، ومعنى « رَحْمة » أي : نِعْمَة في الدِّين.