لمَّا أُمر الرَّسولُ بالتَّبليغ، والإنذارِ؛ أمر الأمة بمتابعة الرسول.
قوله :« مِنْ ربِّكُمْ » يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه يتعلَّقُ ب « أنزل » وتكون « مِنْ » لابتداء الغايةِ المجازية.
الثاني : أنْ يتعلَّقُ ب « أنزل » وتكون « مِنْ » لابتداء الغايةِ المجازية.
الثاني : أنْ يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حالٌ : إمّا من الموصول، وإمَّا من عائده القائم مقام الفاعل.

فصل في دحض شبهة لنفاة القياس


اتدلَّ نُفَاةُ القياسِ بقوله :﴿ اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ والمرادُ به، القرآنُ والسَّنُة، واستدلُّوا أيضاً بها على أن تخصيصَ عموم القرآن القياسِ لا يُجوزُ، لأنَّ عُمُوم القُرْآنِ منزَّلٌ من عند الله، والله - تعالى - أوجبَ متابعتَهُ فوجب العمل بِعُمُومِ القرآن، ولمَّا وجب العمل به؛ امتنع العملُ بالقِيَاسِ، وإلاَّ لَزِمَ التَّنَاقَضُ.
وأجيبوا بأن قوله تعالى ﴿ فاعتبروا ﴾ [ الحشر : ٢ ] يدلُّ على وجوب العمل بالقياس، فكان العمل بالقياس عملاً بإنزال.
فإن قيل : لو كان العمل بالقِيَاس عملاً بما أنزله اللَّهُ لكان تارك العمل بلا قياس كافراً؛ لقوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] وحيث اجتمعت الأمَّةُ على عدمِ التَّكْفير؛ علمنا أنَّ العمل بالقياس ليس عملاً بما أنْزَلَ اللَّهُ.
وأجيبوا بأنَّ كون القياس حجَّةً ثبت بإجماع الصَّحابة والإجماع دليل قَاطِعٌ، وما ذكرتمُوهُ تمسُّكٌ بالعُمُومِ، وهو دليل مَظْنُونٌ والقَاطِعُ أولى من المَظْنُونِ.
وأجَابَ نفاةُ القياسِ بأن كون الإجماع حجَّةً قاطِعَةً إنَّما ثبت بِعُمُومَاتِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، والفرع لا يكون أقْوَى من الأصْلِ، وأجِيبُوا بأنَّ الآيَاتِ والأحاديث لما تعاضدت قويت.
قوله :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي : لا تَتَّخِذُوا غيره أوْلِيَاءَ تطيعونَهُم في مَعْصِيَةِ اللَّهِ.
قوله :« مِنْ دُونِهِ » يجُوزُ أن يتعلق بالفعل قَبْلَهُ، والمعنى : لا تَعْدِلُوا عَنْهُ إلى غيره من الشَّيَاطِينِ والكُهَّانِ.
والثاني : أن يتعلق بِمَحْذُوفٍ؛ لنه كان في الأصْلِ صفة ل « أولياء » فلمَّا تقدَّم نُصِبَ حالاً، وإليه يميل تَفْسِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فإنَّهُ قال :« أي لا تتولَّوْا من دونه شياطين الإنس والجن؛ فيحملوكم على الأهواء والبدع ». والضَّمِيرُ في « دونه » يعود على « ربِّكُمْ » ولذلك قال الزَّمَخشريُّ « مِنْ دُونِ اللَّهِ »، ويجُوزُ أن يعود على « مَا » الموصُولةِ، وأن يعود على الكتابِ المُنَزَّل، والمعنى : لا تَعْدِلُوا عنه إلى الكُتُبِ المَنْسُوخَةِ.
وقرأ الجَحْدَرِيُّ :« ابَْغُوا » بالغين المعجمة من الابتغاء. ومالك بن دينار ومجاهد :« ولا تَبْتَغُوا » من الابتغاء أيضاً من قوله :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً ﴾ آل عمران : ٨٥ ].
قوله :﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَرُونَ ﴾ قد تقدَّم نظيرُهُ في قوله :﴿ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ [ البقرة : ٨٨ ] وهو أنَّ « قَلِيلاً » نعت مصدر محذوف أي : تذكُّراً قليلاً تذكرون، أوْ نعت ظرف زمانٍ مَحْذُوفٍ أيضاً أي : زماناً قَلِيلاً تذكَّرون، فالمصدرُ أو الظَّرْفُ منصوب بالفعل بعدهُ، و « مَا » مزيدةٌ للتَّوكيد، وهذا إعْرابٌ جليٌّ.


الصفحة التالية
Icon