قوله :﴿ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ أي : أخرنِي، وأمْهِلْني فلا تميتني إلى يوم يُبعَثُونَ من قُبُورهم، وهي النَّفْخَةُ الأخِيرَةُ عند قِيَام السَّاعَةِ.
والضَّميرُ في « يُبْعَثُونَ يعودُ على بَنِي آدَمَ لدلالة السِّياقِ عليهم، كما دَلَّ على ما عاد عليه الضَّميرانِ في » منها « وفيها كما تقدم.
قوله : ف ﴿ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ﴾ قال بعضُ العُلَمَاءِ، إنَّهُ تعالى أنظره إلى النَّفْخَةِ الأولى؛ لأنَّهُ تعالى قال في آيةٍ أخرى :﴿ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم ﴾ [ الحجر : ٣٧، ٣٨ ]، المراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحْيَاءُ كلهُمْ.
وقال آخرون : لم يُوقِّتِ اللَّهُ تعالى له أجلاً بل قال :﴿ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ﴾ وقوله في الآيةِ الأخْرَى ﴿ إلى يَوْمِ الوقت المعلوم ﴾ المرادُ منه الوقت المَعْلُومُ في عِلْمِ الله تعالى.
قالوا : والدَّليلُ على صِحَّتِهِ : أنَّ إبليس كان مُكَلَّفاً، والمُكَلَّفُ لا يجوزُ أن يعلم أنَّ اللَّهَ تعالى أخَّرَ أجَلَهُ إلى الوقت الفُلانِيِّن لأنَّ ذلك المُكَلّفَ يعلمُ أنَّهُ متى تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وإذا علم أنَّ وقت موته هو الوَقْتُ الفُلانِيُّ أقدم على المعصية بقلب فارغ، فإذا قَرُبَ وَقْتُ أجَلِهِ؛ تاب عن تلك المعاصي، فَثَبَتَ أن تعريف وقت المَوْتِ بعينه يَجْرِي مَجْرَى الإغْرَاءِ بالقَبِيح، وذلك غير جَائزٍ على اللَّهِ تعالى.
وأجاب الأوَّلُونَ بأنَّ تَعْرِيفَ اللَّه - تعالى - كَوْنَهُ من المُنْظَرِينَ إلى يَوْمَ القِيَامَةِ لا يقْتَضِي إغْراءً؛ لأنَّهُ تعالى كَانَ يعلمُ أنَّهُ يمُوتُ على أقْبَح أنْواعِ الكُفْرِ والفِسْقِ، سواء عَلِمَ وَقْتَ موته، أوْ لم يعلمْهُ، فلم يكنْ ذلك الإعلامُ موجِباً إغراءَهُ بالقبيح، ومثاله أنَّهُ تعالى عرَّف أنبياءَهُ أنَّهُم يموتون على الطَّهَارَة والعِصْمَةِ، ولم يكن ذلك مُوجِباً إغراءهم بالقبيح؛ لأجل أنه تعالى عَلِمَ أنَّهُ سواء عرَّفَهُم تلك الحالة، أم لم يعرِّفْهُمْ تلك الحالة، فإنَّهُم يَمُوتُونَ على الطَّهارة والعِصْمةِ، فلمَّا كان حالهم لا يَتَفَاوت بسببِ هذا التَّعْرِيف، فلا جَرَمَ لم يكن ذلك التعريف إغراء بالقبيحِ فكذلك ههنا.
قوله :﴿ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ في هذه »
الباء « وجهان :
أحدهما : أنَّهَا قسميَّةٌ وهو الظَّاهِرُ أي : بقدرتك عليَّ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعَدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم الذي يسلكونه إلى الجَنَّةِ بأن أزيِّنَ لهم الباطِل، وما يُكْسِبُهُمْ المآثِمَ.
ويدل على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة »
ص « :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ ﴾ [ الآية : ٨٢ ].
والثاني : أنَّها سببيَّةٌ، وبه بدأ الزَّمَخْشَرِيُّ قال :﴿ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ فبسبب إغوائِكَ إيَّايَ؛ لأقعدن لهم، ثم قال :»
والمعنى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم حتَّى يَفْسُدُوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم «.
فإنْ قُلْتَ : بِمَ تعلَّقَتِ »
البَاءُ « ؛ فإنَّ تعلها ب » لأقْعَدُنّ « يصدُّ عنه لام القسم لا تقولُ : واللَّه بزيدٍ لأمرنّ؟
قُلْتُ : تعلَّقتْ بفعل القَسَمِ المَحْذُوف تقديره، فبما أغْوَيْتَني أقْسِمُ باللَّهِ لأقعدنّ [ أي ] : فبسبب إغوائك أقسم.


الصفحة التالية
Icon