ويجُوزُ أن يكون « البَاءُ » للقسم أي : فأقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ.
قال شهابُ الدِّين. وهذان الوَجْهَانِ سبقه إليهما أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبَارِيِّ، وذكر عبارةً قريبةً من هذه العِبارَةِ.
وقال أبو حيان :« وما ذكره من أنَّ اللاَّمَ تصدُّ عن تعلُّقِ البَاءِ ب » لأقْعُدَنَّ « ليس حكماً مجتمعاً عليه، بل في ذلك خِلافٌ ».
قال شهابُ الدِّين : أما الخلافُ فنعم، لكنَّهُ خلافٌ ضعيفٌ لا يعتد به أبُو القَاسِمُ، والشَّيْخُ نَفْسُهُ قد قال عند قوله تعالى :﴿ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأعراف : ١٨ ] في قراءة من كَسَرَ اللاَّم في « لِمَنْ » : إنَّ ذلك لا يجيزه الجمهورُ، وسيأتي مبينّاً إن شاء اللَّهُ تعالى.
و « مَا » تَحْتَمِلُ ثلاثةَ أوْجُهٍ :
أظهرها : أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ أي : فَبِإغوائِكَ إيَايَ.
والثاني : أنَّها استفهاميَّةٌ يعني أنَّهُ اسْتَفْهَمَ عن السَّبب الذي إغواهُ به فقال : فبأيِّ شيءٍ من الأشْيَاءِ أغْوَيْتَنِي؟ ثم استأنَفَ جُمْلَةً أقْسَمَ فيها بقوله :« لأقْعُدَنَّ » وهذا ضعيفٌ عند بعضهم، أو ضرورةً عند آخرينَ من حيثُ أنَّ « مَا » الاسفتهاميَّة إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفُهَا، ولا تثبت إلاَّ في شذوذ كقولهم : عمَّا تَسْألُ؟ أو ضَرُورَةً كقوله :[ الوافر ]

٢٤١٢ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتمُنِي لَئِيمٌ كَخِنْزير تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
والثالث : أنَّها شرطيةٌ، وهو قول ابن الأنْبَارِيِّ، ونَصُّهُ قال - رحمه الله - : ويجوز أن يكون « مَا » بتأويل الشَّرْطِ، و « الباء » من صلة الإغواء، والفاءُ المضْمَرةُ جوابُ الشَّرْطِ، والتقديرُ : فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطَكَ؛ فتُضْمَرُ الفاءُ [ في ] جواب الشَّرْطِ كما تُضْمِرُهَا في قولك :« إلَى مَا أوْمَأتَ أنِّي قَابِلُهُ، وبما أمرت أني سامعٌ مطيعٌ ». وهذا الذي قاله ضعيف جدّاً، فإنَّهُ على تقدير صحَّةِ معناهُ يمتنعُ من حيث الصناعةُ، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلاَّ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كقوله :[ البسط ]
٢٤١٣ - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا والشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلانِ
أيْ : فالله. وكان المبرد لا يُجَوَّز ذلك ضرورة أيضاً، وينشد البيت المذكور :[ البسيط ]
٢٤١٤ - مَنْ يَفْعَل الخَيْرَ فالرَّحْمَنُ يَشْكُرُهُ ............................
فعلى قول أبي بكر يكونُ قوله :« لأقْعدنَّ » جواب قسم محذوف، وذلك القسَمُ المقدَّرُ، وجوابه جوابُ الشَّرْطِ، فيقدَّرُ دخول الفَاءِ على نفس جُمْلَةِ القَسَمِ مع جوابها تقديرُهُ : فبما أغْوَيْتَنِي فواللَّهِ لأقْعُدَنَّ. هذا يتمم مذهبه.
والإغواء إيقاع الغَيِّ في القَلْبِ أي : بما أوْقَعْتَ في قلبي من الغَيِّ والعِنَادِ والاستكبار وقد تقدَّمَ في البَقَرَة.
قوله :« صِرَاطكَ » في نَصْبِهِ ثلاثة أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على إسْقَاطِ الخَافِضِ.
قال الزَّجَّاج : ولا اختلاف بين النَّحءويين أنَّ « على » محذوفة كقولك :« ضَرَبَ زيد الظَّهْرَ والبطنَ، أي : على الظَّهْرِ والبَطْن ».


الصفحة التالية
Icon