وأمَّا الدَّلائل السَّمْعيَّةُ فَمِنْهَا قولُهُ تعالى :﴿ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ ﴾ [ الإخلاص : ١ ]. فوصفه بكونه أحَداً، والأحد مبالغةٌ في كونه واحداً والذي يمتلىءُ منه العَرْشُ، ويفضل على العرش يكون مُرَكَّباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاءِ العَرْشِ، وذلك يُنَافِي كونه أحَداً.
وقال بعَث الكرَّامِيَّة عند هذا الإلْزَامِ : إنَّهُ تعالى ذاتٌ واحدةٌ، [ ومع كونه ذاتاً واحدة حَصَلَتْ في كلِّ هذا الأحْيَازِ دفعةً واحدةً قالوا : فلأجْلِ أنَّهُ تعالى حصل ] دفعة واحدة في جَميع الأحْيَازِ امتلأ العَرْشُ منه، فَيُقَالُ لهم : حَاصِلُ هذا الكلام يرجع أنَّهُ يَجُوزُ حصول الذَّاتِ الشَّاغلة للحيِّز والجهة في أحْيَازٍ كثيرةٍ دفعةً واحدة، والعقلاءُ اتَّفَقُوا على أنَّ العلمَ بفسادِ ذلك من أجلِّ العُلُومِ الضروريَّةِ أيضاً، وأيضاً فإنْ جوَّزتم ذلك فلِمَ لا تُجَوِّزُونَ أن يقال : جَمِيعُ العالم من العَرْشِ إلى ما تَحْتَ الثَّرَى جَوْهَرٌ واحد، ومَوْجُودٌ واحد، إلا أنَّ ذلك الجزء الذي لا يَتَجَزَّأ حصَلَ في جملة هذه الأحْيَازِ، فَيظَنُّ أنَّهَأ أشياء كثيرة، ومعلوم أنَّ من جوَّزَهُ، فقد التزم مُنْكراً من القول عظيماً.
فإن قالوا : إنَّمَا عرفنا هَا هُنَا حصول التَّغَايُرِ بين هذه الذَّوَاتِ، لأنَّ بعضها يَفْنَى، بع بَقَاءِ البَاقِي، وذلك يوجب التَّغَايرَ، وأيضاً فنرى بَعْضَهَا متحرِّكٌ وبعضها ساكِنٌ، والمُتَحرِّكُ غير السَّاكِنِ؛ فوجب القولُ بالتَّغايُرِ، وهذا المعانِي غير حاصلةٍ في ذَاتنِ اللَّه - تعالى - فظهر الفَرْقُ، فنقول : أمَّا قَوْلَكُمْ : بأنّا نُشَاهِدُ أنَّ هذا الجُزْءَ يبقى مع أنَّهُ يفنى ذلك الجزء الآخر، وذلك يُوجِبُ التَّغَايُرَ، فلا نسلم أنَّه فني شيء من الأجزاء، بل نقول : لِمَ لا يجوز أن يقال : إنَّ جميع أجزاء العالم جزءٌ واحد فقط، ثم إنَّهُ حصل هاهنا وهناك.
وأيضاً جعل موصوفاً بالسَّوادِ والبياضِ، وجميع الألوان والطُّعُومِ، فالذي يفتى إنَّمَا هو حُصُولُهُ هناك، فأمَّا أن يقال : إنَّهُ فني في نَفْسِهِ، فهذا غير مسلم.
وأمَّا قولكم : نَرَى بعض الأجسام مُتَحَرِّكاً، وبعضها ساكناً، وذلك يُوجِبُ التَّغَايُرَ؛ لأنَّ الحركة والسُّكُونَ لا يجتمعان فنقولُ : إنا حكمنا بأنَّ الحركةَ والسُّكُونَ لا يجتمعان.
لاعتقادنا أنَّ الجِسْمَ الواحِدَ لا يَحْصُلُ دفعة واحدة في حيزين، فإذا رَأيْنَا أنَّا السَّاكِنَ بقي هاهنا، وأن المُتَحَرِّكَ ليس هاهنا، قَضَيْنَا أنَّ المُتَحَرِّكَ غير السَّاكِن.
ومَّا بِتَقْدِيرِ أن يجوز الذَّاتِ الواحدة حاصلة في حيزِّين دفعة واحدة، فلم يمتنع كون الذَّاتِ الواحدة متحرِّكَةً سَاكِنَةٌ معاً؛ لأنَّ أقْصَى ما في البابِ أنَّهُ بسبب السُّكُونِ بقي ها هنا وبسبب الحركة حصل في الحيِّزِ الآخر، إلا أنّا لمَّا جوَّزنا أن تحصلَ الذَّاتُ الواحدةُ دَفْعَةً واحدَةً في حيِّزين معاً، لم يبعد أن تكون الذَّاتُ السَّاكِنَةُ هي غَيْرُ الذَّاتِ المتحرِّكةُ، فثبت أنَّهُ لو جَازَ أن يقالك إنَّهُ تعالى ذاته واحدة، لا تقبل القِسْمَةَ، ثمَّ مع ذلك يمتلىء العرشُ منه لم يبعد أن يقال : إنَّ العَرْشَ في نفسه جَوْهَرٌ فَرْدٌ جزء لا يتجزَّأُ، ومع ذلك فقد حَصَلَ في كلِّ تلك الأحْيَازِ، وحصل منه كل العرش، وذلك يُفْضِي إلى فتح باب الجَهَالاتِ.