فصل في معنى « الإغشاء »
قال الواحديُّ :« الإغْشَاءُ والتَّغْشِيَةُ : إلْبَاسُ الشيء بالشَّيء، وقد جَاءَ التَّنْزِيلُ بالتَّشْديد والتَّخفيف، فمن التَّشديد قوله تعالى :﴿ فَغَشَّاهَا مَا غشى ﴾ [ النجم : ٥٤ ] ومن اللُّغة الثانية :﴿ فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [ يس : ٩ ] والمفعولُ الثاني مَحْذُوفٌ، ، أي فأغْشَيْنَاهُم العمى وفقد الرؤية، ومعنى الآية أي : يأتي اللَّيْلُ على النَّهارِ فيغطيه، وفيه حذف أي : ويغشي النَّهار اللَّيْلَ، ولم يذكرْ لدلالةِ الكلام عليه، وذكر في آية أخرى :﴿ يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل ﴾ [ الزمر : ٥ ].
» يَطْلُبُهُ حَثِيثاً « أي : سَرِيعاً، وذلك أنَّهُ إذَا كان يعضب أحدُهُما الآخر ويخلفه فكان يطلبه.
قال القفَّالُ - رحمه الله تعالى - : إنَّهُ تعالى لمَّا أخبر عبادَهُ باستوائه على العرش، وأخْبَرَ عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته، أرَاهم ذلكَ عياناً فيما يُشَاهِدُونَهُ منها؛ ليضمَّ العيانَ غلى الخبرِ، وتزول الشُّبْهَةُ عن كُلِّ الجهاتِ فقال :﴿ يُغْشِي الليل النهار ﴾ ؛ لأنَّهُ تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقبهما من المناقع العظيمة يتم أمر الحياة، وتكمل المنفعة والمصلحة.
قوله :» والشَّمْسَ « قرأ ابن عامر هنا وفي » النحل « [ ١٢ ] برفع الشمسِ، وما عُطف عليها، ورفع » مُسَخَّرَات «، ووافقه حفصٌ عن عاصم في النَّحل خاصة على رفع » والنَّجُوم مُسَخَّرات «، والباقون بالنَّصْب في الموضعين. وقرّأ أبانُ بْنُ تَغْلِبٍ هنا برفع » النُّجُومِ « وما بعده.
فأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فعلى الابتداء والخبرِ، جعلها جملة مستقلَّةً بالإخبار بأنَّهَا مُسخَّرات لنا من الله - تعالى - لمنافعنا.
وأمَّا قراءةُ الجماعةِ، فالنَّصْبُ في هذه السُّورةِ على عطفها على » السَّمواتِ « أي : وخلق الشَّمْسَ، فتكون » مُسَخَّرات « على هذا حالاً من هذه المفاعيلِ، ويجوزُ أن تكون هذه [ منصوبةً ] ب » جَعَلَ « مقدَّراً فتكون هذه المنصوباتُ مفعولاً أوَّلاً، و » مُسَخَّرَات « مفعولاً ثانياً.
وأمَّا قراءةُ حفص في النَّحْلِ، فإنَّهُ إنَّما رفع هنا؛ لأنَّ النَّاصِبَ هناك » سخَّر « وهو قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٌ ﴾ [ النحل : ١٢ ] فلو نصب » النُّجُوم « و » مُسَخَّراتٍ « لصار اللفظ : سَخَّرها مُسَخَّراتٍ، فيلزم التَّأكيد، فلذلك قطعهما على الأوَّلِ ورفعهما جملة مُسْتَقلَّة. والجمهورُ يخرِّجونها على الحال المؤكدة، وهو مستفيض في كلامهم، أو على إضمار فِعْلٍ قبل » والنُّجُوم « أي : وجعل النُّجوم مُسخَّراتٍ، أو يكون » مُسَخَّرات « جمع مُسَخَّر المرادُ به المصدر، وجُمِع باعتبار أنواعه كأنَّهُ قيل : وسخَّر لكم اللَّيْلأ، والنَّهار، والشَّمس، والقمر، والنجوم تسخيراتٍ أي أنْواعاً من التَّسْخِيرِ.
قوله :» بأمْرِهِ « متعلق ب » مُسَخَّراتٍ « [ أي ] : بتيسيره وإرادته لها في ذلك، ويجوزُ أن تكون » الباءُ « للحال أي : مصاحبةً لأمره غير خارجة عنه في تسخيرها، ومعنى مُسَخَّراتٍ أي : منزلات بأمره.