وقال ابن عطية :« ويُحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعَبَّد الله [ به ] المؤمنين ممَّا تفعلهُ الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم : إنا لا نعودُ في مِلَّتكم، ثم خشي أن يتعَبَّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول : هذه عودة إلى ملَّتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبَّدَ به ».
قال أبو حيان :« وهذا الاحتمال لا يَصِحُّ لأن قوله :﴿ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر ».
قال شهاب الدين :« قد حكى ابن الأنباري هذا القول عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإرادة ثم قال : وهذا القول مُتَنَاولهُ بعيد، لأن فيه تبعيض الملّة ».
وقيل : هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب.
قال ابن عطية :« ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبال الاستثناء، ولو كان الكلام :﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ﴾ قوي هذا التأويل ».
وهذا الذي قاله سهوٌ؛ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد « إنْ » الشرطية، كما يتخلَّص المضارع له ب « أنْ » المصدرية.
وقيل : إن الضمير في قوله :« فيها » ليس عائداً على المِلَّة، بل عائد على الفِرْية، والتقدير : وما يكون لنا أن نعود في الفِرْية إلا أن يشاء ربنا، وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه.

فصل في بين المشيئة


استدل أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر، واستدل المعتزلة بها على أنه لا يشاء إلا الخير.
فأمّا وجه استدلال اهل السنة فمن وجهين :
الأول : قوله :﴿ إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ [ يدل على أن المنجي من الكفر هو الله - تعالى -، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على نقيض قوله ﴿ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ ].
الثاني : أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة، وتلك الملة كفر، فكان هذا تجويزاً من شعيب - عليه السلام - أن يعيدهم إلى الكفر.
قال الواحدي : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر؛ ألا ترى إلى قوله الخليل - ﷺ - :﴿ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ] وكان محمد ﷺ يقول :« يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ والأبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلى دِيْنِكَ وطاعَتِكَ ». وقال يوسف - عليه السلام - :﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] وأجاب المعتزلة بوجوه :
أحدها : أن قوله :« ما لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء [ الله ] أن يعيدنا إيها قضية [ شرطية، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء.


الصفحة التالية
Icon