وثانيها : أن هذا مذكور على طريق التبعيد ] كما يقال : لا أفعل ذلك إلاَّ إذا ابيضّ القَارُ وشاب الغراب، فعلّق شعيب - عليه السلام - عوده إلى ملتهم على مشيئته بما علم أنه لا يكون منه ذلك أصلاً على طريق التبعيد لا على وجه الشرط.
وثالثها : قوله :﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ ليس فيه بيان أن الذي يشاء الله ما هو؟ فنحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله بأن يظهر الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره، وما كان جائزاً كان مراداً لله - تعالى -، وكون الصبر أفضل من الإظهار لا يخرج الإظهار من أن يكون مراداً لله - تعالى - كما أن المسح على الخفين مرادٌ لله تعالى، وإن كان غسل الرجلين أفضل.
ورابعها : أن المراد بقوله :﴿ لنخرجنك يا شعيب ﴾ أي من القرية، فيكون المراد بقوله :﴿ أن نعود فيها ﴾ أي القرية.
وخامسها : أن نقول : يجب حمل المشيئة هاهنا على الأمر؛ لأن ﴿ وما كان لنا أن فيها إلاَّ أن يشاء الله ﴾ معناه : فإنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيءها، فقوله :« لنا أن نعود فيها } أي يكون ذلك العود جائزاً، والمشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل، فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عنده ولا يجوز له فعله، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر، فثبت أن المراد من المشيئة هاهنا الأمر، فكان التقدير إلاَّ أن يأمر الله [ عودنا في ملتكم فإنا نعود إليها، والشريعة المنسوخة لا يبعد أن يأمر الله ] بالعمل بها مرة أخرى، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم.
وسادسها : قال الجبائي : المراد من الملّة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما، فقال شعيب :﴿ وما كان لنا أن نعود في ملتكم ﴾ فلما دخل في ذلك كل ما هم عليه، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير مسنوخ، لا جرم قال :﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ والمعنى : إلا أن يشاء الله بقاء بعضها، فيدلّنا عليه، فحينئذ نعود إليها، فهذا الاستثناء يعود إلى الأحكام التي يجوز النسخ والتغيير فيها، ولا يعود إلى ما لا يقبل التغيير ألبتة، فهذه أسئلة القوم.
وتمسك المعتزلة بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين :
الأول : أن ظاهر قوله ﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها، وذلك يقتضي أن كلَّ ما شاء الله جوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيهن ولم يكن حراماً، قالوا : وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد حصوله كان حسناً مأذوناً فيه، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى.


الصفحة التالية
Icon