بين تعالى أنَّ تدبيره في أهْلِ القرى لا يجري على نَمَطٍ وَاحِدٍ وَإنَّمَا يُدَبِّرُهُم بما يَكُونُ إلى الإيمانِ أقرب فقال :﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة ﴾ ؛ لأنَّ ورود النِّعمة [ في البدن والمال ] بعد البأساء والضَّرَّاءِ يدعو إلى الانْقِيَادِ، والاشتغال بالشُّكْرِ.
وفي « مكان » وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مفعول به لا ظَرْف، والمعنى : بَدَّلْنَا مكان الحال السَّيِّئَةِ [ الحال الحسنة ]، فالحسنةُ هي المأخوذة الحاصلةُ ومكان السيِّئةِ هو المتروك الذَّاهِبُ، وهو الذي تصحبه « الباء » في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره : بدَّلْتُ زيداً بِعَمْروٍ، فزيدٌ هو المأخوذ، وعمرو المتروكُ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا في البَقَرَةِ في موضعين :
أولهما :﴿ فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ البقرة : ٥٩ ].
والثاني :﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله ﴾ [ البقرة : ٢١١ ].
ف « مَكَانَ » و « الحَسنَة » مفعولان إلاَّ أن أحدهُما وصل إليه الفعل بِنَفْسِهِ [ وهو « الحَسَنَةُ » ]، والآخر بحذف حرف الجرِّ وهو « مكان ».
والثاني : أنَّهُ مَنْصُوبٌ على الظَّرْفِ، والتَّقديرُ :« ثمَّ بَدَّلْنَا [ في ] مكان السَّيِّئَةِ الحسنةِ » إلا أنَّ هذا ينبغي أن يُردَّ؛ لأن « بدَّل » لا بُدَّ له من مفعولين أحَدُهَمَا على إسقاط الباءِ.
والمراد بالحَسَنَةِ والسيِّئَةِ هاهنا : الشِّدَّةُ والرَّخَاءُ.
قال أهل اللُّغَةِ :« السَّيِّئَةُ : كلُّ ما يَسُوءُ صَاحِبَهُ، والحسنَةُ : كل ما اسْتَحسَنَهُ الطَّبْعُ والعَقْلُ ».
قوله :« حَتَّى عَفَوا » « حتَّى » هنا غائيةٌ، وتقدير مَنْ قدّرها ب « إلَى » فإنَّمَا يريدُ تَفْسِيرَ المعنى لا الإعرابَ؛ لأن حتَّى الجارَّة لا تُبَاشِرُ إلاَّ المضارع المنصوب بإضمار « أنْ » ؛ لأنها في التَّقْديرِ داخلة على المصدر المُنْسَبِك منها، ومن الفعل، [ وأمّا الماضي ] فلا يطَّرِدُ حذف « أنْ » معه، فلا يقدّر معه أنَّها حرف جرٍّ داخلة على أن المصدريَّة، أي : حتَّى أن عفوا، وهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول أبي البقاءِ :« حتَّى عَفَوْا أي : إلى أن عفوا ».
ومعنى « عَفَوا » هنا كَثُروا من عَفَا الشعْر إذا كَثُر، ومنه :« وأعْفُوا اللِّحَى » يُقَالُ : عَفَاه، وأعْفَاه ثلاثياً ورباعيّاً؛ قال زهيرٌ :[ الوافر ]
٢٥٣٠ - أذَلِكَ أمْ أقَبُّ البَطْنِ جَأبٌ | عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عَفِاءُ |
٢٥٣١ - بِمُسْتأسِدِ القُرْبَانِ عَافٍ نَبَاتُهُ | ..................... |
٢٥٣٢ - ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا | بأسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ |
فصل في المراد من الآية
ومعنى الآية أنَّ الله - تعالى - أبدلهم مكان الباساء والضرَّاء الحسنة، وهي النِّعءمَةُ والسَّعَةُ والخَصْبُ والصِّحَّةُ.
» حتى عفوا « كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، وقالوا من غرتهم وغفلتهم :﴿ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء ﴾، أي : هكذا كانت عادة الدَّهر قديماً لنا ولآبائنا، ولم يكن ذلك عقوبةً من اللَّهِ، فكُونُوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤُكم، فإنَّهُم لم يتركوا دِينَهُم لما أصابهم من الضَّرَّاءِ.