فَجَاء الإسْلامُ بالنَّهْيِ عن التَّطيُّرِ، والتَّشَاؤُم بما يُسمع من صوت طائر ما كان، وعلى أيّ حال كان؛ فقال ﷺ :« أقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا » وذلك أن كثيراً من أهل الجاهليةِ كان إذا أراد الحَاجَةَ ذهب إلى الطَّير في وَكْرها فنفَّرها فإذا أخذت يميناً مضى إلى حاجته، وهَذَا هو السَّانِحُ عندهم، وإن أخذت شمااً رجع وهذا هو البَارحُ عندهم، فنهى النَّبيَّ ﷺ عن هذا بقوله « أقِرُّوا الطَّيْرَ على مُكنَاتِهَا » هكذا في الحديث.
وأهل العربيَّة يقولون :« وكناتِهَا »، والوكْنَةُ : اسمٌ لكلِّ وَكْرٍ وعشٍّ. والوَكْنُ : اسمٌ للموضع الذي يبيض فيه الطَّائِرُ ويُفرخُ، وهُوا الخَرْقُ في الحِيطَانِ والشَّجرِ.
ويقال : وَكَنَ الطائرُ يَكِنُ وَكْناً ووكُوناً : دخل في الوَكْنِ، ووكن بَيْضَهُ، وعليه : حضنه، وكان أيضاً من العرب من لا يرى التَّطيُّرَ شيئاً نقله القرطبيُّ.
وروى عبد اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ عن رسُولِ الله ﷺ، قال :« مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيرةُ عن حَاجَتِه فَقَدْ أشْرَكَ ».
قيل : وما كفارةُ ذلك يا رسُول اللَّهِ.
قال :« أنْ يقُولَ أحَدُكم : اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ إله غَيرُك، ثُمَّ يمضي إلى حاجته »
قوله ﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا ﴾. لَمَّا حكى عنهم أوَّلاً أنَّهم بجهلهم أسْنَدُوا الحوادث إلى قضاء اللَّه وقدره، حكى عنهم ثانياً نوعاً آخر من الجهل والضَّلالة، وهو أنَّهم لم يُميّزُوا بين المعجزاتِ والسّحر، وجعلوا آيات موسى مثل انقلاب العَصَا حَيَّة.
وقالُوا ذلك من باب السِّحر فلا يقبلُ منها شيء.
« مَهْمَا » اسمُ شرطٍ يجزم فعلين ك « إنْ » هذا قولُ جمهور النُّحَاةِ، وقد تأتي للاستفهام وهو قليلٌ جداً.
كقوله :[ الرجز ]

٢٥٥٤- مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهُ؟ أوْدَى بِنَعْلَيَّ وسِربَالِيَهْ
يريد : ما لي اللِّيلة مالي؟ والهاءُ للسَّكت. وزعم بعض النُّحاة أنَّ الجازمةَ تأتي ظرف زمان؛ وأنشد :[ الطويل ]
٢٥٥٥ - وإنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا
وقول الآخر :[ الكامل ]
٢٥٥٦- عَوَّدْتَ قَوْمَكَ أنَّ كُلَّ مُبَرَّزٍ مَهْمَا يُعَوَّدْ شِيَمةً يتَعَوَّدِ
وقول الآخر :[ الكامل ]
٢٥٥٧ - نُبِّئْتُ أنَّ أبَا شُتَيْمٍ يَدَّعِي مَهْمَا يَعِشُ يَسْمَعْ بمَا لَمْ يَسْمَعِ
قال : ف « مَهْمَا » هنا ظرف زمان، والجمهور على خلافه، وما ذكره متأوّل، بل بعضُهُ لا يظهر فيه للظَّرفية معنى، وشنَّع الزمخشري على القائل بذلك.
فقال : وهذه الكلمة في عداد الكلمات الَّتي يُحَرِّفُهَا مَنْ لا يدّ له في علم العربية، فيضعها في غير موضعها ويحسب « مَهْمَا » بمعنى « متى ما ».
ويقولُ : مَهْمَا جئتني أعطيتك، وهذا من كلامِهِ، وليس من واضع العربية، ثم يذهبُ فيفسِّر :﴿ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ ﴾ [ الأعراف : ١٣٢ ] بمعنى الوقت، فَيُلْحد في آيات اللَّهِ، وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مِمَّا يُوجب الجُثُوَّ بين يدي النَّاظر في كتاب سيبويه.


الصفحة التالية
Icon