قوله :« فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ » هذه الفاءُ سببيَّة، أيْ : تَسَبَّب عن النَّكْثِ الانتقامُ ثم إن أريد بالانتقام نَفْسُ الإغْراق، فالفاءُ الثَّانية مُفَسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك وإلاَّ كان التقدير : فَأرَدْنَا الانتقام، والانتقام في اللُّغَةِ : سلب النعمة بالعذابِ.
و « في اليمِّ » متعلق ب « أغْرَقْنَاهُم »، واليَمّ : البحر، والمشهور أنَّهُ عربيّ.
قال ذو الرُّمَّة :[ البسيط ]

٢٥٦٤ - دَاوِيَّة ودُجَى لَيْلٍ كأنَّهُمَا يَمٌّ تراضَنَ في حَافَاتِهَا الرُّومُ
وقال ابْنُ قتيبةَ : أنَّه البَحْرُ بالسُّريانِيَّةِ.
وقيل : بالعبرانيَّة. والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص قال الزمخشري : اليَمّ : البحرُ الذي لا يُدْرَكُ قعره.
وقيل : هو لُجَّة البحر ومعظم مائه.
وقال الهروِيُّ - في « غريبيه » - : واليَمُّ : البَحْرُ الذي يقالُ له : إسَافٌ وفيه غَرِقَ فرعونُ. وهذا ليس بجيد، لقوله تعالى :﴿ فَأَلْقِيهِ فِي اليم ﴾ [ القصص : ٧ ] والمرادُ : نيلُ مِصْرَ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون.

فصل


قيل : واشتقاقه من التيمم، وهو القصد، لأنَّ النَّاسَ يقصدونه.
قوله :« بِأنَّهُمْ » الباء للسببيّة، أي : أغْرَقْنَاهم بسببِ تكذيبهم بآياتِنَا، وكونهم عَنْهَا غافلين، أي : غَافِلينَ عن آياتنا، فالضَّمِيرُ في عَنْهَا يعودُ على الآيات، وهذا هو الظَّاهِرُ.
وبه قال الزَّجَّاجُ وغيره.
وقيل : يجوزُ أن يعود على النِّقْمَةِ المدلولِ عليها ب « انتَقَمْنَا » ويُعْزَى هذا لابن عباس، وكأن القائل بذلك تَخَيَّلَ انَّ الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لَهُم من حيثُ إنَّ الغفلة ليست من كسب الإنسان.
وقال الجمهور : إنَّهم تَعَاطَوْا أسبابَ الغَفْلَة، فَذُمّوا عليها، كما يُذَمُّ الناس على نِسْيَانه لتعاطيه أسبابه.

فصل


قوله :« وَأوْرَثْنَا » يتعدى لاثنين، لأنَّه قبل النَّقلِ بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو : وَرِثْتُ أبي، فبالنَّقْلِ اكتسب آخَرَ.
فأولهما : القومَ والَّذينَ وصلتُه في محل نصب نعتاً له.
وأما المفعولُ الثَّانِي ففيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها : أنَّهُ « مشارِقَ الأرضِ ومغَاربَهَا ».
وفي قوله :﴿ التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ على هذا وجهان : أحدهما : أنَّه نعتٌ ل : مشارق ومغارب. والثاني : أنَّهُ نعتٌ للأرض، وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوف بَيْنَ الصفةِ والموصوفِ.
وهو نظيرُ قولك : قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ.
وقال أبُو البقاءِ هنا : وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ فيه العطفَ على الموصوفِ قبل الصِّفَةِ. وهذا سبْقُ لسان أو قلم، لأنَّ العطفَ ليس على الموصُوفِ، بل على ما أضيف إلى الموصوف.
والثاني من الأوجه الثلاثة : أن المفعول الثاني هو :﴿ التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ أي : أورثناهم الأرض التي باركنا فيها.
وفي قوله تعالى :﴿ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا ﴾ وجهان : أحدهما : هو منصوبٌ على الظَّرف ب « يُسْتَضْعَفُونَ ». والثاني : أنَّ تقديره : يُسْتَضْعَفُون في مشارق الأرض ومغاربها فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وصل الفعلُ بنفسه؛ فنصب، هكذا قال أبو البقاءِ.
قال شهابُ الدِّين : ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن، فإنَّ القول بالظَّرفية هو عينُ القولِ بكونه على تقدير في، لأنَّ كلَّ ظرف مقدَّرٌ ب « في » فكيف يجعل شيئاً واحد شيئين؟
الوجه الثالث : أنَّ المفعول الثَّاني محذوفٌ، تقديره : أورثناهم الأرضَ، أو الملكَ، أو نحوه ويُسْتَضْعَفُونَ يجوز أن يكون على بابه من الطَّلبِ، أي : يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً وأن يكون استفعل بمعنى : وَجَدَهُ ذَا كَذَا، والمُرَادُ بالأرْضِ : أرَضُ الشَّام.


الصفحة التالية
Icon