الرابع : أن يَنْتَصِبَ على التَّمييز
قال أبُو حيَّان : والأصل : فَتَمَّ أربعون ميقاتُ ربّه، ثمَّ أسند التَّمامَ إلى ميقات وانتصب أربعون على التَّمييز. فهو منقولٌ من الفاعليَّة، يعني فيكون كقوله :﴿ واشتعل الرأس شَيْباً ﴾ [ مريم : ٤ ] وهذا الذي قاله وجعلهُ هو الذي يظهر يشكل بما ذكره هو في الرَّدِّ على الحُوفيِّ؛ حيثُ قال هناك « إنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً، فَتتمَّ » لذلك ينبغي أن يقال هنا : إن الأربعين لم تكن ناقصة فتتم فكيف يُقدِّر : فتَمَّ أرْبَعُون ميقاتُ ربِّهِ؟ فإن أجاب هنا بجوابٍ، فَهُوَ جوابٌ هناك لِمَنِ اعترضَ عليه.
وقوله :﴿ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ في هذه الجملة قولان :
أظهرهما : أنَّهَا للتأكيد، لأنَّ قوله قبل ذلك :« وأتْمَمْنَاهَا بعشْرٍ » فُهِمَ أنَّها أربعون ليلةً.
وقيل : بل هي للتَّأسيس، لاحتمالِ أن يتوهَّم مُتوهِّمٌ بعشر ساعات، أو غير ذلك، وهو بعيدٌ.
وقوله رَبِّهِ ولم يقل : مِيَقاتُنَا جَرْياً على « واعَدْنَا » لِمَا في إظهار هذا الاسمِ الشَّريف من الاعترافِ بربوبية اللَّه له وإصلاحه له.

فصل


روي أنَّ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - وعد بني إسرائيل وهو بمصر : إن أهلك اللَّه عدوَّهم؛ أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلمَّا هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآيةُ في بيان كيفية نزول التَّوراةِ.

فصل


فإن قيل :« الأربعون » المذكورة في البقرة : هي هذه الأربعُونَ المفصَّلةُ ههنا، فما فائدة التَّفصيلِ؟ فالجوابُ من وجوه :
الأأول : أنَّهُ تعالى أمر موسى بصوم ثلاثين يوماً، وهو شهرُ ذي القعدة فلمَّا تَمَّ الثَّلاثين أنكر خلوف فِيهِ فتسَوَّكَ فقالت الملائكةُ : كنا نشم من فيكَ رائحةَ المِسْكِ؛ فأفسدتهُ بالسِّواك، فأوْحَى الله إليه أما عَلِمتَ أنَّ خلُوفَ فَم الصَّائِمِ أطْيَبُ عندي من ريح المِسْكِ؟ فأمره اللَّهُ تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحِجَّةِ لهذا السَّبَبِ.
الثاني : أنَّ الله تعالى أمرهُ بصوم ثلاثين يوماً، وأن يعمل فيها ما يُقرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى، ثم أنزلَ التَّوْراةَ العشر من ذي الحِجَّةِ، وكلَّمَهُ أيضاً فيه فهذه فائدة تفصيل الأربعين إلى الثَّلاثينَ، وإلى العشرةِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ ومسروق ومجاهد : الثَّلاثين ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحِجَّةِ، فعلى هذا يكون كلام ربه له يوم عيدِ النَّحْرِ.
وفي مثله أكمل اللَّهُ عزَّ وجلَّ دين محمد ﷺ.
الثالث : قال أبُو مسلمٍ في سورة طه : إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بادر إلى ميقات ربه قبل قومه، لقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى قَالَ هُمْ أولااء على أَثَرِي ﴾ [ طه : ٨٣، ٨٤ ].
فجائز أن يكون موسى أتى الطُّور عند تمام الثلاثين، فلمَّا أعلمه اللَّهُ خبر قومه مع السَّامرين، رجع إلى قومه قبل تمامِ ما وعده، ثمَّ عاد إلى الميقاتِ في عشر أخر، فتم ميقات ربه أربعين ليلةً.


الصفحة التالية
Icon