وخامسها : أنَّك تجد أحْوَال الفَوَاكهِ مُخْتَلِفَةً، فَبَعْضها يَكُون اللُّبُّ في الدَّاخلِ، والقشر في الخَارج كما في الجَوْزِ واللَّوزِ، وبَعْضُها تكون الفَاكِهَة في الخَارِجِ، وتكون الخَشَبَة في الدَّاخِل، كالخَوْخ والمِشْمِش، وبَعْضُها تكون النَّوَاةُ لها لُبُّ كالَمِشْمِش، والخَوْخ، وبَعْضُها لا لُبَّ له كَنَوى التَّمْرِ، وبَعْضُ الفَوَاكه لا يكُون لَهُ من الدَّاخلِ والخَارد قشر، بل يكون مطلوباً [ كالتين ] فهذه أحوال مُخْتَلِفَةٌ في الفواكه.
وأيضاً الحُبُوب المُخْتَلِفَة في الأشْكَالِ والصُّورِن فَشَكْل الحِنْطَةِ كأنَّها نِصْفُ دَائِرِةٍ، وشكل الحمّص على وَجْه آخر، فهذه الأشْكَال المُخْتَلِفَة، لا بُدَّ وأن تكون لأسْرار وحكم علم الخَلِق أنَّ تركِيبَها لا يكمل إلاَّ على هذا الشَّكْلِ.
وأيضاً : فقد تكون الثَّمَرَةُ الوحدة غذاءً لحيوان، وسُمَّاً لحيوان آخر؛ فاخْتلافُ هذه الصِّفاتِ والأحوال، مع اتِّحاد الطَّبائعِ، وتأثير الكواكب، يَدُلُّ على أنَّها إنَّما حصلت بتخليق الفاعِل المُخْتَار، الحكيم.
وسادسها : أنَّك تَجِدُ في الوَرَقَةِ الوَاحِدَة من أوْرَاقِ الشَّجَرَة خطاً واحداً مُسْتَقيماً في وَسطها، كأنَّه بالنّسْبَة لتِلْك الوَرَقَةِ، كالنُّخَاعِ بالنِّسْبَة إلى بَدَن الإنْسان، فكأنه يَتَفرَّقُ من النُّخَاع أعْصابٌ كَثِيرَة يَمْنَةً ويَسْرَةً في بَدَن الإنْسان، ثمَّ لا يزال يَنْفَصِلُ عن شُعَبِهِ شُعَبٌ أخرىن ولا تَزَال تِسْتدقُّ حتى تَخْرُج عن الحِسِّ والابْصَارِ لدقّتها، فكذلك في تلك الورقة ينفصل عن ذلك الخَطِّ الكبير الوَسطانِيِّ خُيُوطٌ مختلفة، وعن كلِّ مِنْهُمَا خيوطٌ أخرى أدَقُّ من الأولى، ولا تَزَالَ كذلك حتَّى تخرج تِلْكَ الخُيُوطُ عن الحسِّ والبَصَرِ.
والخالق- تعالى - إنَّما فعل ذلك، حتَّى أن القُوَى الجاريَةَ المَذْكُورةَ في جِرْم تِلْك الوَرَقَ، تقوى على جَذْبِ الأجْزَاء اللَّطيفة الأرْضيَّة في تلك المَجَاري الضيّقة، فالوُقُوفُ على عِنَايَة حِكْمَةِ الخَالِق في اتِّحادِ تلك الوَرَقَةِ الواحِدَة، واخْتِلاف أشْكالِ الأوْرَاقِ؛ تُؤذِنُ أنَّ عِنَايَتَه في اتِّحادِ حِكْمَة الشَّجرة أكْمَل.
وإذا عرَفْتَ أنَّه- تبارك وتعالى - إنَّما خَلَق النَّبَات لِمَصْلَحَةِ الحيوان، عَلِمت أنَّ عنايته في تخليف الحيوانِ أكْمَلُ؛ ولمَّا عَلِمْتَ أن المَقْصُود من تَخْلِيق الحيوانات [ هو الإنْسَانُ ] عَلِمْت أن عِنَايتَه في تَخْلِيقِ الإنْسَان أكْمَلُ.
ثمَّ إنه - تبارك وتعالى - لما خَلَقَ الحَيوان والنَّباتَ ليكون غذاءً ودواءً للإنْسان بِحَسَب جسدِهِ، والمَقْصُود من تَخْلِيق الإنْسَان : هو المَعْرِفَةُ، والمحبَّة، والخدمة؛ لقوله- تبارك وتعالى- :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ].
قوله :« يخرج » يَجُوز فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها جملة مُسْتأنَفَةٌ، فلا محَلَّ لها.
والثاني : أنَّها في موضع رفع خَبَراً ثانياً، لأنَّ قوله :« مُخْرجُ » يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : انه مَعْطُوفٌ على « فَالِقِ »، ولَمْ يذكر الزَّمَخْشَريُّ غيره، أي : اللَّه فاَلِقٌ ومُخْرِجٌ، أخبر فيه بِهَذَيْن الخَبريْنِ؛ وعلى هذا فيكون « يُخْرِجُ » على وَجْهِه، وعلى كونه مُستَانفاً فيَكُون مُعْتَرِضاً على جِهَة البيانِ لما قَبْلَه من معنى الجملة.