وهذا نوع رابع من دلائلِ وُجُودِ الإله سبحانه وتعالى وكمال قدرته وعلمه، وهو الاستدلال باحوال الإنسان، فقوله :« مِنْ نَفْسٍ واحِدةٍ »، يعني آدم ﷺ، وهي نفس واحدة، وحواء مَخْلُوقةٌ من ضِلْعٍ من أظلاعه، فصار كل [ الناس ] من نَفْسٍ واحدة، وهي آدم.
قإن قيل : فما القول في عِيسَى؟
فالجواب : أنه مَخْلوقٌ من مريم التي هي مَخْلُوقَةٌ من أبَوَيْهَا.
فإن قيل : أليس القرآن دالٌّ على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المَنْفُوخ فيها، فكييف يصح ذلك؟!
فالجواب : أن كلمة « من » تفيد ابتداء الغاية ولا نزاع أن ابتداء عيسى ﷺ كان من مريم، وهذا القدر كان في صِحَّةِ هذا اللفظ.
قال القاضي : فرق بين قوله تبارك وتعالى :[ « أنشأكم » وبين قوله :« خلقكم » لأن أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء، ولكن على وجه النمو والنشوء لا من مَظْهَرِ من الأبوين، كما يقال في النبات : إنه تعالى أنشأه بمعنى ] النمو والزيادة إلى قوت الانتهاء.
قوله :« فَمُسْتَقَرٌّ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف، والباقون بفتحها، وأما « مُسْتَوْدَعٌ » فالكل قرأه مفتوح الدال، وقد روى الأعور عن أبي عمروا بن العلاء كسرها فمن كسر القاف جعل « مُسْتَقَرّاً » اسم فاعل، والمراد به الأشْخَاصُ، وهو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي : فمنكم مُسْتَقرٌّ؛ إما في الأصلاب، أو البطون، أو البقور، وعلى هذه القراءة تتناسقُ « ومستودع » بفتح الدال.
وجوز أبو البقاء في « مُسْتَقِرٌّ » بكسر القاف أن يكون مَكَاناً وبه بدأ.
قال :« فيكون مكاناً يستقر لكم » انتهى.
يعني : والتقدير : ولكم مكان يستقر، وهذا لي بظاهر ألَبَتَّة؛ إذ المكان لا يوصف بكونه مُسْتَقِرّاً بكسر القاف، بل بكونه مُسْتَقراً فيه.
وأما « مستودَع » بفتحها، فيجوز أن يكون اسم مفعول، وأن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، فيقدر الأوّل : فمنكم مستقر في الأصلاب، ومستودع في الأرحام، أو مستقر في الأرض ظاهراً، ومستودع فيها باطناً، ويقدر للثاني : فمنكم متسقر، ولكن مكان تستودعون فيه، ويقدر للثالث : فمنكم مستقر ولكم استيداع.
وأما من فَتَحَ القاف فيجوز فيه وجهان فقط : أن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، أي : فلكم مكان تَسْتَقِرُّونَ فيه، وهو الصُّلْب، أو الرحم، أو الأرض، أو لكم استقرار فيما تقدَّم، ويقص أن يكون اسم مفعول، لأن فعله قاصر لا يُبْنى منه اسم مفعول به [ فيكون اسم مكان والمتسقر بمنزله المقر؛ وإن كان كذلك لم يجز أن يكون خبر المضمر « منكم » بل يكون خبره « لكم » فلتقدير لكمن مقر بخلاف ] مستودع حيث جاز فيه الأوجه الثلاثة.


الصفحة التالية
Icon