قوله :« لِيُحِقَّ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلقٌ بما قبله، أي : ويقطع ليحق الحقَّ، والثاني : أن يتعلَّق، بمحذوفٍ تقديره : ليحقَّ الحقَّ فعل ذلك، أي : ما فعله إلاَّ لهما، وهو إثباتُ الإسلامِ وإظهاره وزوالُ الكُفْرِ ومحقه.
قال الزمخشريُّ :« ويجب أن يُقدَّر المحذوفُ مؤخراً ليفيد الاختصاص وينطبق عليه المعنى ». وهذا على رأيه، وهو الصحيحُ.
فإن قيل : قوله :﴿ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ ثم قوله بعد ذلك « لِيُحِقَّ الحقَّ » تكرير محضٌ.
فالجوابُ : أنَّ المراد بالأوَّل سبب ما وعد اللَّه به هذه الواقعة من النَّصر والظَّفر بالأعداد.
والمراد بالثاني : تقوية القرآن والدِّين ونصرة هذه الشَّريعةِ؛ لأنَّ الذي وقع مع المؤمنين يوم بدر بالكافرين سبب لعزة الدِّين وقوته، ولهذا قرنه بقوله :« ويُبْطِلَ الباطلَ » الذي هو الشرك، وذلك في مقابلة :« الحقّ » الذي هو الدين والإيمان.
فإن قيل : الحقُّ حقٌّ لذاته، والباطلُ باطلٌ لذاته، وما ثبت للشيء لذاته؛ فإنَّه يمتنع تحصيله بجعل جاعل فما المرادُ من تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل.
الجوابُ : المرادُ من تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل إظهار كون ذلك الحقِّ حقّاً، وإظهار كون الباطل باطلاً، وذلك يكون تارةً بإظهار الدَّلائل والبينات، وتارةً بتقوية رؤسَاءِ الباطل.
فصل
احتجوا بقوله :« لِيُحِقَّ الحَقَّ » في مسألة خلْقِ الأفعال.
قالوا : يجبُ حمله على أنه يوجدُ الحقَّ وبكونه، والحقُّ ليس إلاَّ الدين والاعتقاد، فدل على أنَّ العقائد الحقة لا تحصل إلاَّ بتكوين الله، ولا يمكنُ حمل تحقيق الحقِّ على إظهار آثاره؛ لأنَّ ذلك الظُّهُورَ حصل بفعل العبادِ، فامتنع إضافة ذلك الإظهار إلى اللَّهِ تعالى، ولا يمكنُ أن يقال : المرادُ من أظهاره وضع الدلائل عليها، لأنَّ هذا المعنى حاصلٌ في حق الكافر والمسلم.
وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يَبْقَى لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلاً.
قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ تدلُ على أنَّهُ يريدُ تحقيق الباطل وإبطال الحق ألبتَّة، إنَّما يريد تحقيق الحقِّ، وإبطال الباطل، وذلك يبطلُ قول من يقول إنَّه لا باطل ولا كفر إلاَّ والله تعالى مريدٌ له.
وأجيبوا : بأنه ثبت في أصول الفقة أنَّ المفرد المحلى بالألف واللاَّم ينصرفُ إلى المعهود السَّابقِ فهذه الآية دلَّ على أنَّه تعالى أراد تحقيق الحق، وإبطال الباطل في الصُّورة، فلم قُلْتُم إنَّ الأمر كذلك في جميع الصُّور؟
وقد بيَّنا أيضاً بالدَّليلِ أنَّ هذه الآية تدلُّ على صحَّة قولنا.
ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْ كَرِهَ المجرمون ﴾ أي : المشركون.