قال شهابُ الدِّينِ :« قوله لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات، لا حاجة إليه لنَّ الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإيجاب مطلقاً، سواءٌ أكان ما بعد إلاَّ فضلةً أو عمدةً فذكرُ الفضلةِ والمفعول يوهم جوازه في غيرهما ».
وقال ابنُ عطيَّة :« وأمَّا الاستثناءُ فهو من المُولِّين الذين تتضمَّنهم » مَنْ « فجعل نصبه على الاستثناء ».
وقال جماعةٌ : إنَّ الاستثناءَ من أنوع التولِّي، ورُدَّ هذا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون التركيبُ : إلاَّ تحيُّزاً أو تحرُّفاً، والتَّحيُّزُ والتَّحَوُّزُ : الانثمامُ، وتحوَّزت الحيَّة : انطوَتْ، وحُزْتُ الشَّيء : ضَمَمْتُهُ، والحَوْزَةُ : ما يَضُمُّ الأشياء، ووزنُ « متحيَّز » « مُتَفَيعِل » والأصل « مُتَحيْوِز » فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكُون فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الباء بعدها، ك : مَيِّت، ولا يجوزُ أن يكون :« مُتفَعِّلاً » ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان « متحوِّزاً »، فأمَّا متحوِّز ف « متفعِّل ».
فصل
معنى الآية : إذا ذهبتم للقتال، فلا تولوهم الأدْبَارَ : أي لا تنهزموا، فتجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم ثم بيَّن أنَّ الانهزام محرم إلاَّ في حالتين :
إحداهما : أن يكون مُتحَرّفاً للقتال، أي : أنه يجعل تحرفه أنه منهزم، ثم ينعطف عليه، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها. يقال : تحرَّف وانحرف إذا زالَ عن وجهة الاستواء. والثانية : قوله ﴿ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ ﴾ والتَّحيز الانضمام كما تقدَّم، والفئة الجماعةُ، فإذا كان هذا المنهزم منفرداً، وفي الكفار كثرة، وغلب على ظنه أنه إن ثبت قتل من غير فائدة، وإن انضمَّ إلى جمع من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال، فربَّمَا وجب عليه التَّحيُّز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون جائزاً.
والحاصل أن الانهزام من العدو حرام، إلاَّ في هايتن الحالتين، وهذا ليس بانهزام في الحقيقة ثمَّ قال تعالى :﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ﴾ إلاَّ في هاتين الحالتين ﴿ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ ﴾ في الآخرة ﴿ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير ﴾ [ الأنفال : ١٦ ].
فصل
قال أبو سعيد الخدري : هذا في أصحاب بدر خاصة؛ لأن ما كان يجوز لهم الانهزام، لأن النبي ﷺ كان معهم، ولم يكن فئة يتحيّزون إليها دون النبي ﷺ وقد وعده الله بانّصر والظّفر فلم يكن لهم التحيّز إلى فئةٍ أخرى.
وأيضاً فإنَّ اللَّه شدد الأمر على أهل بدرٍ؛ لأنه كان أول جهاد، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه، لزم منه الخلل العظيم.
فلهذا وجب التشديدُ والمبالغة، ومنع اللَّهُ في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى لهذا السَّبب، وهذا قول الحسنِ وقتادة والضحاك.