واحتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى؛ لأنَّ الله تعالى قال :﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ١٧ ].
ومن المعلوم أنهم جرحوا، فدلَّ هذا على أان حدوث تلك الأفعال إنما حصل من اللَّه تعالى.
وقوله :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ﴾ أثبت كونه عليه الصَّلاة والسَّلام رامياً ونفى عنه كونه رامياً، فوجب حمله على أنه رماه كسباً وأنه ما رماه خلقاً.
فإن قيل : أما قوله :﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ ﴾ فيه وجوه :
أحدها : أنَّ قتل الكُفَّارِ إنما تيسَّر بمعونة الله ونصره وتأييده، فصحت هذه الإضافة.
وثانيها : أن الجرح كان إليهم وإخراج الروح كان إلى الله، والتقدير : فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم.
وأما قوله :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى ﴾.
قال القاضي : قيل : فيه أشياء : منها أنَّ الرمية الواحدة لا توجب وصول التُّراب إلى عيونهم، فكان وصول أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلاَ بإيصالِ اللَّهِ تعالى، ومنها : أنَّ التُرابَ الذي رماه كان قليلاً فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل، فدل على أنَّ الله تعالى ضمَّ إليها سائر أجزاء التُّرابِ، فأوصلها إلى عيونهم. ومنها : أنَّ عند رميه ألقى الله الرُّعْبَ في قلوبهم، فكان المُرَادُ من قوله :﴿ ولكن الله رمى ﴾ هو أنه تعالى رمى قلوبهم الرُّعْب.
فالجوابُ : أنَّ كلَّ ما ذكروه عدولٌ عن الظَّاهرِ، والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ.
قوله :﴿ وَلِيُبْلِيَ المؤمنين ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ، أي : وليبلي فعل ذلك، أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة، أي : ولكن اللَّه رمى ليمحق الكفار، وليُبْلي المؤمنين، والبلاء في الخير والشَّر، قال زهير :[ الوافر ]
٢٦٨٩ -........................ | وإبْلاهُمَا خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو |
وقيل : على الرمي قالهما مكيٌّ، والظَّاهر أنها تعود على الَّهِ تعالى.
وقوله :« بَلاَءً » يجوزُ أن يكون اسم مصدر، أي : إبلاء، ويجوزُ أن يكون أريد بالبلاء نفس الشيء المبلو به، والمرادُ من هذا البلاء الإنعام أي : ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر.
قال القاضي : ولولا أنَّ المفسرين اتفقوا على حمل البلاءِ هنا على النعمة، وإلاَّ لكان يحتمل المِحْنَة بالتكليف فيما بعده من الجهاد ثمَّ قال تعالى :﴿ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ لدعائكم « عَلِيمٌ » بنيّاتكم.
قوله : ذَلِكُمْ « يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي : ذلكم الأمر، والخبر محذوف قاله الحوفيُّ، والأحسنُ أن يقدَّر الخبر ذلكم البلاء حق وحتمٌ.
وقيل : هو خبر مبتدأ، أي : الأمر ذلكم، وهو تقدير سيبويه.
وقيل : محلُّه نصب بإضمار فعلٍ أي : فعل ذلكم، والإشارةُ ب » ذَلِكُمْ « إلى القتل والرمي والإبلاء.