ويمكنُ أن يقال لا حاجة إلى ذلك، لأنَّ الإنسانَ إذا شكَّ في العملِ الذي يُقْدِمُ عليه هل هو صوابٌ أو خطأ؟ فقد يَنْدَُ عليه من حيثُ أنَّ الإقدامَ على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ غير جائز.
قوله :﴿ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا ﴾ لما ظهر لَهُمْ أنَّ الذي عَمِلُوهُ كان بَاطِلاً، أظْهَرُوا الانقطاع إلى اللَّهِ تعالى وقالوا :﴿ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ﴾.
قرأ الأخوان « تَرْحَمْنَا » و « تَغْفِر » بالخطاب، « رَبَّنَا » بالنَّصْب، وهي قرايةُ الشعبي وابن وثَّاب وابن مصرف والجَحْدريّ والأعمش، وأيُّوب، وباقي السبعة بياءِ الغيبةِ فيهما، « رَبُّنَا » رفعاً، وهي قراءةُ الحسنِ، ومُجاهدٍ، والأعرج وشيْبَةَ وأبي جَعْفَرٍ. فالنَّصبُ على أنَّهُ مُنَادى، وناسَبهُ الخطاب، والرَّفْعُ على أنَّه فاعلٌ، فَيَجُوزُ أن يكون هذا الكلام صَدَرَ من جمسعهم على التَّعَاقُبِ، أو هذا من طائفةٍ، وهذا من طائفةٍ، فمن غلب عليه الخوفُ، وقوي على المُواجهةِ؛ خاطب مستقيلاً من ذنبه، ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامهُ مُخْرج المُسْتَحِي من الخطاب؛ فأسند الفِعْلَ إلى الغَائِبِ.
قال المُفَسِّرُونَ : وكان هذا النَّدمُ والاستغفارُ منهم بَعْدَ رُجوعِ مُوسى إليهم.
قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ : هذان حالان من « مُوسَى » عند من يُجيزُ تعدُّد الحال، وعند من لا يُجيزه يجعل « أسِفاً » حالاً من الضَّميرِ المُسْتَتر في « غَضْبانَ »، فتكون حالاً مُتداخِلةً، أو يجعلُها بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ لِعُسْر إدخالِهِ في أقْسَام البدلِ.
وأقربُ ما يقال : إنَّه بدلُ بَعْضٍ من كُل إن فسَّرنا الأسفَ بالشَّديدِ الغضبِ، وهو قولُ أبِي الدَّرْدَاء وعطاء عن ابنِ عبَّاس، واختيار الزَّجَّاجِ، واحْتَجُّوا بقوله :﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٥٥ ] أي : اغْضَبُونَا، أو بدل اشتمال إن فسَّرناهُ بالحزِينِ.
وهو قول ابن عباس والحسن، والسُّدِّي، ومنه قوله :[ المديد ]

٢٥٧٨ - غَيْرُ مأسُوفٍ على زَمَنٍ يَنْقَضِي بالهَمِّ والحَزَنِ
وقالت عائشةُ - رضي الله عنها - : إنَّ أبا بكر رَجُلٌّ أسِيفٌ أي : حَزِينٌ.
قال الواحديُّ :« والقولان مُتقاربانِ؛ لأنَّ الغضبَ من الحُزْنِ، والحُزْن من الغَضَبِ » ؛ قال :[ البسيط ]
٢٥٧٩ -...................... فَحُزنُ كُلِّ أِي حُزْنٍ أخُو الغَضَبِ
وقال الأعشى :[ الطويل ]
٢٥٨٠ - أرَى رَجْلاً مِنْهُمْ أسِيفاً كأنَّمَا يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كَفّاً مُخَضَّبَا
فهذا بمعنى : غَضْبَان، وحديث عائشة يدلُّ على أنَّهُ : الحزين، فلمَّا كانا مُتقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليَّةُ.
ويقال : رَجُلٌ أسِفٌ : إذا قُصِد ثُبُوتُ الوَصْفِ واستقراره، فإن قُصِد بِهِ الزَّمان جَآءَ على فاعل.

فصل


اختلفُوا في هذه الحال.
فقيل : إنَّهُ عند هجومه عليهم، عرف ذلك.
وقال أبُو مسلم : بل كان عارفاً بذلك من قبل؛ لقوله تعالى :﴿ وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفا ﴾ وإنَّما كان راجعاص قبل وصوله إليهم.
وقال تعالى - لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام - في حال المكالمة


الصفحة التالية
Icon