﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ ﴾ [ طه : ٥٨ ].
قوله : قال بِئْسَمَا هذا جوابُ « لَمَّا » وتقدَّم الكلامُ على « بِئْسَمَا »، ولكنَّ المَخْصُوصَ بالذَّم محذوفٌ، والفاعلُ مستتر يُفَسِّرُهُ « ما خَلَفْتُمُونِي » والتقديرُ : بِئْسَ خلافة خَلَفتُمُونيهَا خلافَتُكُمْ.
فصل
فإن قيل : ما معنى قوله :« من بعدي » بعد قوله « خلفتموني » ؟
فالجواب : معناه : من بعد ما رأيتم مني من تَوْحيد اللَّهِ، ونفي الشُّركاءِ، وإخلاص العبادةِ له، أو من بعد ما كتب : احمل بني إسرائيل على التَّوحيد، وامنعهم من عبادة البقرِ حين قالوا :﴿ اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [ الأعراف : ١٣٨ ]، ومن حقِّ الخفاء أن يسيرُوا سيرة المُستخلفين.
قوله :﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾ : في « أمْرَ » وجهان، أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ على المفعول بعد إسْقاط الخافض، وتضمينُ الفعل مَعْنَى ما يتعدَّى بنفسه، والأصلُ : أعجلْتُمْ عن أمْرِ ربِّكم.
قال الزمخشريُّ : يُقال : عَجِل عن الأمرِ : ذا تركه غير تَامٍّ، ونقيضه تَمَّ عليه، وأعجله عنه غيره، ويُضَمَّن معنى « سَبَقَ » فيتعدَّى تَعْديته.
فيقالُ : عَجِلْتُ الأمْرَ، والمعنى :« أعجلتم عَنْ أمر ربكم ».
والثاني : أنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مضمنٍ معنى آخر، حكى يَعْقُوب عجلتُ الشَّيء سَبَقْتُهُ، وأعْجلْتُ الرَّجُلَ : اسْتَعْجَلْتُهُ، أي : حَمَلْتُهُ على العَجَلَةِ.
فصل
قال الواحدي :« معنى العَجَلَة : التقدم بالشَّيءِ قبل وقْتِهِ، ولذلك صارت مَذْمُومَةً والسُّرعة غر مذمومة، لأنَّ معناها : عمل الشَّيء في أول أوقاتِهِ ».
ولقائلِ أن يقُولَ : لو كانت العجلةُ مَذْمُومَةٌ فلم قال موسى :﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى ﴾ [ طه : ٨٤ ].
قال ابْنُ عبَّاسٍ : معنى ﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾ يعني : ميعاد ربكم فلمْ تَصْبِرُوا لهُ وقال الحسنُ : وعْدُ رَبكم الذي وَعَدكُم من الأربعين، وذلك أنَّهُمْ قَدروا أنَّه إن لم يأت على رأس الثَّلاثين، فقد مات.
وقال عطاءٌ : يريدُ أعَجِلْتُم سَخَطَ رَبّكُم.
وقال الكلبي : أعَجِلْتُم بعبادة العِجْلِ قبل أنْ يأتيكم أمْر ربكُم.
قوله :« وألْقَى الألوَاح » أي الَّتِي فيها التَّوْراةُ على الأرض من شدَّةِ الغضب.
قالت الرُّواةُ : كانتِ التَّوراةُ سبعة أٍباعٍ، فلمَّا ألْقَاهَا انكسرت، فرفع منها سِتَّةُ أسباعٍ، وبقي سبع واحد فرفع ما كان من أخرا الغيب وبقي ما فيه الموعظة والأحكام من الحلا والحرام.
ولقائل أن يقول : ليس في القرآن إلاَّ أنَّه ألقى الألْوَاحَ فأما أنه ألقاها بحيث تكسّرت، فليس في القُرآنِ وإنَّهُ جُرأة عَظِيمةٌ على كتاب الله تعالى، ومثله لا يليقُ بالأنبياء، ويرد هذا قوله تعالى بعد ذلك :﴿ وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح ﴾ [ الأعراف : ١٥٤ ] فدلَّ ذلك على أنَّها لم تنكسر، ولا شيء منها، وأنَّ القائلينَ بأنَّ ستة أسباعها رفعت إلى السَّماءِ، ليس الأمر كذلك، وأنَّهُ أخذها بأعينها.
قوله :﴿ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ ﴾ بذُؤابته ولحيتِهِ، لقوله :﴿ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ﴾ [ طه : ٩٤ ].
قوله :« يَجُرُّهُ إلَيْهِ » فيه ثلاثةُ أوجْهٍ : أحدها : أنَّ الجُمْلَةَ حالٌ من ضمير مُوسَى المستتر في أخَذَا، أي : أخَذَهُ جَارّاً إليه.