لمَّا ذكر أنَّهم ليسُوا أولياء البيتِ الحرام بيَّن ههنا ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت، وهو أنَّ صلاتهم عند البيت إنَّما كان بالمكاء والتَّصديةِ.
أي : ما كان شيءٌ ممَّا يعُدَّونه صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلينِ، وهما المكاء والتصدية أي : إن كان لهم صلاةٌ فلا تكن إلاَّ هذين، كقول الشَّاعر :[ الطويل ]
٢٧٠٠ - ومَا كُنْتُ أخْشَى أن يكثونَ عَطَاؤُهُ | أدَاهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا |
قال الأصمعي : قلت لمنتجع بن نبهان : ما تَمْكُوا فريصتُه؟.
فشبَّك بين أصابعه، وجعلها على فِيهِ، ونفخ فيها. يريد قول عنترة :[ الكامل ]
٢٧٠١ - وحَلِيْلِ غَانِيَةٍ تَركْتُ مُجَدَّلاً | تَمْكُو فَريصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلمِ |
وقال مجاهدٌ : المُكاءٌ : صفيرٌ على لحنِ طائرٍ أبيض يكون بالحجاز؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٢٧٠٢ - إذَا غرَّدَ المُكَّاءُ في غَيْرِ روْضَةٍ | فَوَيلٌ لأهْلِ الشَّاءِ والحُمُراتِ |
قال الزمخشريُّ :« المُكاء » : فُعال، بوزن : الثُّغَاء والرُّغَاء، من مَكَا يَمْكُوا : إذا صَفَر والمُكاء : الصَّفيرُ « ومنه : المُكَّاء : وهو طائر يألف الرِّيف، وجمعهُ المَكَاكِيُّ.
قيل : ولم يشذَّ من أسماء الأصوات بالكسر إلاَّ الغِنَاء، والنِّداء. والتَّصدية فيها قولان :
أحدهما : أنها من الصَّدى، وهو ما يُسْمع من رجع الصَّوْتِ في الأمكنة الخالية الصُّلبةِ يقال منه : صَدَى يصدي تصديةً، والمراد بها هنا : ما يسمع من صوت التَّصفيق بإحدى اليدينِ على الأخرى.
وقيل : هي مأخوذةٌ من التَّصدد، وهي الضَّجيجُ، والصِّياحُ، والتصفيق، فأبدلت إحدى الدَّالين ياءً تخفيفاً، ويدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ [ الزخرف : ٥٧ ] في قراءة من كسر الصَّاد، أي : يضجُّونَ ويلغطون، وهذا قول أبي عبيدة، وردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي، وقال : إنَّما هو مِن الصَّدْي، فكيف يُجعل من المضعَّف؟ وقد ردَّ أبو عليّ على أبي جعفر ردَّهُ وقال » قد ثبت أنَّ يصُدُّونَ من نحو الصَّوْتِ، فأخذهُ منه، وتصدية : تَفْعِلَة « ثم ذكر كلاماً كثيراً.
والثاني : أنَّها من الصَّدِّ، وهو المنعُ؛ والأصل : تَصْدِدَة، بدالين أيضاً، فأبدلت ثانيتهما ياء ويُؤيِّدُ هذا قراءةُ من قرأ » يَصُدُّونَ « بالضَّمِّ، أي : يمنعون. وقرأ العَامَّةُ :» صلاتُهُم « رفعاً، » مُكَاءً « نَصْباً.
وأبان بن تغلب والأعمش وعاصم بخلاف عنهما :﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ ﴾ نصباً، » مُكَاءٌ « رفعاً وخطَّأ الفارسيُّ هذه القراءة، وقال : لا يجوزُ أن يُخْبَر عن النَّكرةِ بالمعرفةِ إلاَّ في ضرورة؛ كقول حسَّانٍ :[ الوافر ]
٢٧٠٣ - كأنَّ سَبيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأسٍ | يَكُونُ مزاجَهَا عسلٌ ومَاءُ |