قوله « فإن تُبْتُمْ » عن الشكر، وأخلصتم التَّوحيدَ :﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أعرضتم عن الإيمان ﴿ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله ﴾ وذلك وعيد عظيم.
ثم قال ﴿ وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ في الآخرة، والبشارةُ - ههنا - وردت على سبيل الاستهزاء كما يقال : تحيتهم الضرب، وإكرامهم الشَّتم.
قوله ﴿ إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ﴾ في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه استثناءٌ منقطعٌ، والتقديرُ : لكن الذين عاهدتم فأتمُّوا إليهم عهدهم، وإلى هذا نحا الزَّمخشري، فإنه قال :« فإن قلت : ممَّا استثنى قوله :» إلاَّ الذينَ عاهَدتُّم « ؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله :» فسيحُوا في الأرضِ « ؛ لأنَّ الكلام خطابٌ للمسلمين ومعناه : براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم : سِيحُوا إلاَّ الذين عاهدتم منهم، ثُمَّ لَمْ ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم، والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في النَّاكثين، ولكن الذين لم ينكثوا، فأتمُّوا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم.
الثاني : أنَّه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملةٌ محذوفة، تقديره : اقتلوا المشركين المعاهدين إلاَّ الذين عاهدتم، وفيه ضعفٌ؛ قاله الزَّجَّاجُ، فإنَّه قال :» إنَّه عائد إلى قوله :« براءةٌ » والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلاَّ الذين لم ينقضوا العهد «.
الثالث : أنَّه مبتدأ، والخبر قوله :» فأتمُّوا إليهِمْ « قاله أبو البقاءِ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الفاء تزاد في غير موضعها، إذ المبتدأ لا يشبه الشَّرط؛ لأنَّه لأناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش، إذ يُجوِّز زيادتها مطلقاً، والأولى أنَّهُ منقطعٌ، لأنَّا لو جعلناهُ متصلاً مستثنى من المشركين في أوَّل السُّورة، لأدَّى إلى الفصل بين المستثنى، والمستثنى منه بجملٍ كثيرة.
قوله ﴿ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً ﴾ الجمهور » يَنقصُوكُم « بالصَّاد المهملة، وهو يتعدَّى لواحدٍ، ولاثنين، ويجوزُ ذلك فيه هنا ف » كُمْ « مفعولٌ أول، و » شَيْئاً « إمَّا معفول ثان، وإمَّا مصدرٌ، أي : شيئاً من النقصان، أو : لا قليلاً، ولا كثيراً من النقصان.
وقرأ عطاءُ بن السائب الكوفي وعكرمة، وابن السَّمَيْفع، وأبو زيد » يَنقُضُوكم « بالضَّاد المعجمة وهي على حذف مضاف، أي : ينقضُوا عهدكم، فحذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه.
قال الكرمانيُّ :» وهي مناسبة لذكر العهد «. أي : إنَّ النقضَ يُطابق العهد، وهي قريبة من قراءة العامَّة، فإنَّ من نقض العهد فقد نقص من المدة، إلاَّ أنَّ قراءة العامة أوقعُ لمقابلها التمام.
فصل
ومعنى قوله :﴿ إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ﴾ وهم بنو ضمرة حي من كنانة، أمر الله ورسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشعر وكان السَّبب فيه أنهم لم ينقضوا، أي : لم ينقضوا شيئاً من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه، » ولمْ يُظاهِرُوا « لم يعامونا » عَليكُمْ أحَداً « من عدوكم، » فأتمُّوا إليهم عهدَهُم « الذي عاهدتموهم عليه، أي : أوفوقا بعهدهم :» إلى مُدتِهِم « إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه » إنَّ الله يحبُّ المُتَّقِينَ « أي : إنَّ هذه الطائفة لما اتقوا النقض، ونكث العهد، استحقوا من اللهِ أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث.