قوله تعالى :﴿ فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ الآية.
قال الليثُ « يقال سلختُ الشهر : إذا خرجت منه ». و « الانسلاخُ » هنا من أحسن الاستعارات، وقد بيَّن ذلك أبو الهيثم، فقال :« يقال : أهْللنا شهر كذا، أي : دخلنا فيه، فنحنُ نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفه لباساً، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ » ؛ وأنشد :[ الطويل ]

٢٧٤٤- إذا مَا سَلخْتُ الشَّهْرَ أهلَلتُ مِثلهُ كَفَى قَاتِلاً سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي
والألف واللام في « الأشهر » يجوز أن تكون للعهد، والمراد بها : الأشهرُ المتقدمة في قوله :﴿ فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [ التوبة : ٢ ]، والعربُ إذا ذكرت نكرة، ثم أرادت ذكرها ثانياً أتت بضميره؛ أو بلفظه مُعرَّفاً ب « أل »، ولا يجوز حينئذ أن نصفهُ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة، فلو قيل :« رأيت رجلاً، فأكرمتُ الرَّجل الطَّويل » لمْ تُرد بالثَّاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز، كقولك : فأكرمت الرجل المذكور، ومنه هذه الآية، فإنَّ « الأشهر » قد وصفت ب « الحُرُم »، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة، ويجوزُ أن يراد بها غيرُ الأشهر المتقدمة، فلا تكون « أل » للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين.
قالوا : المرادُ بالأشهر الحرم : الأربعة، رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وقال مجاهدٌ وابن إسحاق :« هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوماً ».
وقيل لها حرم : لأنَّ الله حرَّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتَّعرض لهم.
فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم، واللهُ تعالى يقول :﴿ فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم ﴾. قيل : لمَّا كان القدر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم.
قوله ﴿ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾.
اعلم أنَّه تعالى أمر بعد انقضاءِ الأشهر الحرم بأربعة أشياء :
أولها : قوله :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ أي : على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرمِ.
وثانيها :« وَخُذُوهُمْ » أي : أسروهم.
وثالثها :« واحصروهم » والحصر : المنع، أي : امنعوهم من الخروج إن تحصنوا، قاله ابن عباس.
وقال الفرَّاءُ « امنعوهم من دخول مكَّة والتَّصرف في بلاد الشام ».
ورابعها : قوله ﴿ واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾. في انتصاب « كل » وجهان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرف المكاني.
قال الزجاج « نحو : ذهبت مذهباً ». وردَّ عليه الفارسيُّ هذا القول من حيث إنَّه ظرف مكان مختص، والمكانُ المختصُّ لا يصلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة؛ في نحو : صَلَّيْتُ في الطريق وفي البيت، ولا يصل بنفسه إلاَّ في ألفاظٍ محصورةٍ بعضها ينقاس، وبعضها يسمع، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة :[ الكامل ]


الصفحة التالية
Icon