فتقرير النظم : أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه، بل يطالب إمَّا بالإسلام، وإمَّا بالقتل، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة، أو طالباً لاستماع القرآن، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله.
قوله :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ ﴾ كقوله ﴿ إِن امرؤ هَلَكَ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور.
قال ابنُ الخطيب :« أَحَدٌ » مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ، وتقديره :« وإن استجارك أحد، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء، لأنَّ » إنْ « من عوامل الفعل لا تدخل على غيره ». قوله « حتَّى يسمَعَ » يجوز أن تكون هنا للغاية، وأن تكون للتَّعليلِ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله « فَأجِرهُ »، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق « حتَّى » بقوله « استجاركَ »، أو بقوله « فأجرهُ » إذ يجوز تقديره : وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ، حتَّى يسمع كلام الله. والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع، وأعملنا الأوَّل مثلاً، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ « حتَّى » تجرُّ المضمر، و « حتَّى » لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله :[ الوافر ]

٢٧٤٩- فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ
وأمَّا عند من يُجيزُ أن تجرَّ المضمر؛ فلا يمتنع ذلك عندهُ، ويكون من إعمال الثَّاني لحذفه، ويكون كقولك : فَرحْتُ ومررتُ بزيدٍ، أي : فرحْتُ به، ولو كان مِنْ إعمالِ الأوَّلِ لمْ يحذفْهُ من الثَّاني، وقوله :« كَلاَمَ الله » من بابِ إضافة الصِّفةِ لموصوفها، لا من بابِ إضافة المخلوقِ للخالِقِ، و « مَأْمنَهُ » يجوزُ أن يكون مكاناً، أي : مكان أمنه، وأن يكون مصدراً، أي : ثُمَّ أبلغْه أْمْنَهُ.

فصل في المراد من الآية


معنى الآية : وإن استجاركَ أحدٌ من المشركينَ الذين أمرتكَ بقتالهم وقتلهم أي : استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم، ليسمع كلام الله « فأجرهُ »، وأمنه « حتَّى يسمع كلام الله » فيما له وعليه من الثواب والعقاب. « ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ » أي : إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمنُ فيه، وهو دار قومه، فإن قاتلك بعد ذلك، وقدرت عليه فاقتله.


الصفحة التالية
Icon