قوله تعالى :﴿ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾ الآية.
المستفهمُ عند محذوفٌ، لدلالة المعنى عليه، فقدَّره أبو البقاءِ « كيف تَطْمئنون، أو كيف يكونُ لهم عهدٌ » ؟ وقدَّره غيره : كيف لا تقاتلونهم؟. والتقدير الثاني مِنْ تقديري أبي البقاء أحسنُ؛ لأنَّه من جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقْوى.
وقد جاء الحذفُ في هذا التركيب كثيراً، وتقدَّم منه قوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ ﴾ [ آل عمران : ٢٥ ]، ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا ﴾ [ النساء : ٤١ ] ؛ وقال الشاعر :[ الطويل ]
٢٧٥٢- وخَبَّرْتُمَاني أنَّما الموتُ في القُرَى | فكيْفَ وهاتا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ |
٢٧٥٣- فَكيْفَ ولمْ أعلمْهُم خَذلُوكُمُ | علَى مُعظمٍ ولا أديمَكُمُ قدُّوا |
قال أبُو حيَّان :« وقدَّر أبو البقاءِ الفعل بعد » كيف « بقوله :» كيف تطمئنون «، وقدَّره غيره ب » كيف لا تقاتلونهم « ؟.
قال شهابُ الدِّين :» ولم يقدره أبُو البقاء بهذا وحده، بل به، وبالوجه المختار كما تقدَّم منه «.
قوله » كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا « » كيف « تكرار، لاستبعاد ثبات المشركينَ على العهد، وحذف الفعل، لكونه معلوماً، أي : كيف يكون لهم عهد وحالهم أنَّهُمْ إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولا يبقوا عليكم. والجملة الشرطية من قوله :» إِن يَظْهَرُوا « في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي : كيف يكونُ لهم عهدٌ، وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله :﴿ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾ [ الأعراف : ١٦٩ ]، و » لا يرْقُبوا « جوابُ الشرط، وقرأ زيد بن علي :» وإن يُظهَرُوا « ببنائه للمفعول، من أظهره عليه، أي : جعله غالباً له، يقال : ظهرت على فلان : إذا علوته، وظهرت على السطح : إذا صرت فوقه.
قال اللَّيْثُ :» الظُّهور : الظَّفر بالشَّيء، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين، أي : أعلاهُم عليهم «. قال تعالى :﴿ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ﴾ [ الصف : ١٤ ] وقوله :﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ ﴾ [ التوبة : ٣٣ ] أي : ليعليه.
قوله :» لاَ يَرْقُبُواْ « قال الليثُ » رقبَ الإنسانَ يرقبُ رقْبةً ورِقْبَاناً، هو أن ينتظره «.
والمعنى : لا ينتظروا، قاله الضحاكُ، ورقيب القوم : حارسهم، وقوله :﴿ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [ طه : ٩٤ ] أي : لم تحفظه.
وقال قطربٌ :» لا يراعوا فيكم إلاَّ «. قوله :» إلاًّ « مفعولُ به ب » يَرْقُبُوا «. وفي » الإِلِّ « أقوالٌ ».
أحدها : أنَّ المراد به العهد، قاله أبو عبيدة، وابن زيد، والسديُّ وكذلك الذمة، إلاَّ أنه كرر، لاختلاف اللفظين؛ ومنه قول الشاعر :[ البسيط ]
٢٧٥٤- لَوْلاَ بنُو مالكٍ، والإِلُّ مَرْقبةٌ | ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ |
٢٧٥٥- وجَدْناهُمُ كَاذِباً إلُّهُمْ | وذُو الإِلِّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ |