وثانيها : أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم ينكر منهم إلاَّ قولهم ﴿ أَرِنَا الله جَهْرَةً ﴾ [ النساء : ١٥٣ ] فلو كانت الرجفة المذكورة ههنا إنما حصلت بسبب هذا القول لوجب أن يقال : أتهلكنا بما يقول السفهاء مِنَّا؟ فلمَّا لم يقُلْ ذلك بل قال ﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ ﴾ علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بإقدامهم على عبادة العجل لا على القول.
وثالثها : أن في ميقات الكلام أو الرؤية خرَّ موسى صعقاً وجعل الجبل دكّاً وأمَّا هذا الميقات فذكر تعالى أن القوم أخذتهم الرَّجفَةُ، ولم يذكر أن موسى - ﷺ - أخذته الرَّجفة، وكيف يقال أخذته الرجفة، وهو الذي قال :﴿ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ] وهذه الخصوصيات تدلُّ على أن هذا الميقات غير ميقات الكلام وطلب الرُّؤية.
وقيل : المراد بهذا الميقات ما رُوي عن علي - رضي الله عنه - قال :« إنَّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبلٍ؛ فنام هارون فتوفَّاهُ الله، فلمَّا رجع موسى قالوا إنَّهُ هو الذي قتل هارون : فاختار موسى سبعين رجلاً وذهبُوا إلى هارونَ فأحياه الله وقال ما قتلني أحدٌ، فأخذتهم الرَّجفة هناك.
فصل
اختلفُوا في تلك الرَّجفةِ.
فقيل : إنَّهَا رجفة أوْجَبتِ الموتَ.
قال السُّديُّ : قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل، وقد أهلكت خيارهم ولم يبق منهم رجل واحد؟ فما أقول لبني إسرائيل، وكيف يأمنوني على أخدٍ منهم؟ فأحياهم الله. فمعنى قوله ﴿ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ ﴾ أنَّ مُوسى خاف أن يتَّهِمَهُ بنو إسرائيل عن السَّبعين إذا عاد إليهم، ولم يصدقوا أنهم ماتوا.
فقال لربه : لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك، ولا يتهموني.
وقيل : إنَّ تلك الرَّجفة ما كانت موتاً، ولكن القومَ لمَّا رأوا تلك الحالةَ المهيبة أخذتهم الرعدة، ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم، وخاف موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الموت فعند ذلك بكى، ودعا؛ فكشف الله عنهم الرعدة.
قوله :» لميقاتِنَا « متعلقٌ ب » اختيارَ « أي : لأجل ميقاتنا، ويجوز أن يكون معناها الاختصاصَ أي : اختارهم مخصصاً بهم الميقات، كقولك : اختر لك كذا.
قوله » لَوْ شِئْتَ « مفعلوُ المشيئة محذوف، أي : لو شئت إهلكانا، و » أهلكْتَهُم « جواب » لَوْ « والأكثر الإتيانُ باللاَّم في هذا النحو ولذلك لم يأتِ مجرداً منها إلاَّ هنا وفي قوله :﴿ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ ﴾ [ الأعراف : ١٠٠ ] وفي قوله :﴿ يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ ﴾