[ الواقعة : ٧٠ ].
ومعنى من قبل أي قبل الاختيار، وأخذ الرَّجفة.
وقوله :« وإيَّايَ » قد يتعلَّقُ به من يرى جواز انفصال الضمير مع القُدْرِةِ على اتصاله، إذ كان يمكن أن يقال : أهلكتنا. وهو تعلُّقٌّ واهٍ جداً، لأنَّ مقصوده ﷺ التنصيص على هلاك كُلٍّ على حده تعظيماً للأمر، وأيضاً فإنَّ موسى لَمْ يتعاط ما يقتضي إهلاكهُ، بخلاف قومه. وإنَّما قال ذلك تسليماً منه لربِّه، فعطلف ضميرَه تنبيهاً على ذلك، وقد تقم نظيرُ ذلك في قوله :﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾ [ النساء : ١٣١ ] وقوله :﴿ يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ١ ].
قوله :« أتُهْلِكُنَا » يجوزُ فيه أن يكون على بابه أي : أتَعْمُّنَا بالإهلاك أم تخصُّ به السفهاء مِنَّا؟ ويجوز أن يكون بمعنى النَّفي، أي : ما تُهْلك مَنْ لَمْ يُذْنِبْ بذنب غيره، قاله ابنُ الأنباري.
قال وهو كقولك : أتهينُ من يكرمك « ؟ وعن المُبرِّدِ هو سؤالُ استعطاف ومِنَّا في محل نصب على الحال من السُّفَهَاء ويجوز أن يكون للبيان.
قوله :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ﴾.
قال الواحديُّ : الكناية في قوله هِيَ عائدة على الفِتْنَةِ كما تقولُ : إن هو إلاَّ زيد، وإن هي إلاَّ هند، والمعنى : إنَّ تلك الفتنة التي وقع فيها السُّفهاءُ لم تكن إلاَّ فتنتك أضللت بها قوماً فافتنوا، وعصمْتَ قوماً فثبتُوا على الحق. ثُمَّ أكَّد بيان أنَّ الكل من الله تعالى، فقال :﴿ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ ﴾.
ثم قال الواحديُّ : وهذه الآية من الحُجَّج الظَّاهرة على القدريَّةِ التي لا يبقى لهم معها عذر.
قالت المعتزلةُ لا تعلق للجبريَّةِ بهذه الآية؛ لأنه لم يقل : تضلُّ بها من تشاء عن الدين؛ ولأنه قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرَّجْفة، والرَّجفة لا يضِلُّ اللَّهُ بها؛ فوجب تأويل الآية.
فمعنى قوله :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ﴾ أي : امتحانُك وشدة تعبدك؛ لأنَّهُ لمَّا أظْهَرَ الرَّجْفَة كلَّفهم بالصَّبْرِ عليها، وأمَّا قوله :﴿ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ ﴾ ففيه وجوه : أحدها : تَهْدِي بهذا الامتحان إلى الجنَّةِ والثَّوابِ بشرط أن يؤمن ذلك المكلف، ويبقى على الإيمان، وتُعاقِب من تشاء بشرط ألا يؤمن، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه، وثانيها : أن يكون المرادُ بالإضلال الإهلاك، أي : تُهلك من تشاء بهذه الرَّجفة وتصرفُها عَمَّنْ تشاء، وثالثها : أنَّهُ لمَّا كان هذا الامتحان كالسَّببِ في هداية من اهتدى، وضلال من ضَلَّ، جاز أن يُضافَ إليه.

فصل


واعلم أن هذه تأويلات مُتعَسَّفة، والدلائل العقليَّة دالةٌ على أنَّ المراد ما ذكرناه، وتقريره من وجوه :
الأول : أنَّ القدرة الصَّالحة للإيمان والكفر لا يترجحُ تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطَّرَف الآخر، إلاَّ لداعية مرجحة، وخالف تلك الداعية هو اللَّهُ تعالى، وعند حصول الداعية يجب الفعل، وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدمات ثبت أنَّ الهداية والإضلال من الله تعالى.
الثاني : أنَّ العاقل لا يُريدُ إلاَّ الإيمان، والحقَّ، والصدقَ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كلُ أحدٍ مؤمناً محقاً، وحيثُ لم يكن الأمر كذلك؛ ثبت أنَّ الكل من الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon