وأما قوله ﴿ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله ﴾ أي : لا يبني المسجد لأجل الرِّياء والسمعة، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله.
روي أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، والكفار يؤذونه بسببه، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة، ولمَّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفاً بهذه الصفات الأربع، نبَّه بذلك على أنَّ المسجد يجبُ صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث، وإصلاح مهمات الدنيا. قال ﷺ :« يأتِي في آخر الزمانِ ناسٌ من أمتِي يأتُون المساجدَ فيقعُدُون فيها حلقاً، ذكرُهُم الدُّنْيَا، وحُبُّ الدُّنْيَا، لا تُجالِسُوهُم فليْسَ للهِ بِهِمْ حَاجَة » وقال ﷺ « الحديثُ في المسْجِدِ يَأكلُ الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش »، وقال ﷺ، قال الله تعالى :« إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنَّ زُوَّاري فيها عُمَّارها، فطُوبَى لعبدٍ تطهَّر في بيتهِ ثمَّ زَارنِي في بَيْتِي، فحقٌّ على المَزُورِ أن يُكرم زائرهُ »، وقال ﷺ « مَنْ ألفَ المَساجِد ألفهُ الله »، وقال ﷺ « إذَا رأيْتُم الرَّجلَ يعتادُ المسجدَ فاشْهَدُوا له بالإيمان »، وقال ﷺ « مَنْ أسرجَ في مسجدٍ سراجاً لم تزلِ الملائِكةُ وحملةُ العرشِ يَسْتغفرُونَ لهُ ما دامَ في ذلك المسْجدِ ضَوؤهُ »، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريُّ.
قوله :﴿ فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين ﴾ قال المفسرون :« عسى » من الله واجب، لكونه متعالياً عن الشّك والتردد.
وقال أبو مسلم :« عسى » ههنا راجع إلى العباد، وهو يفيدُ الرجاء، فكان المعنى : إنَّ الذين يأتون بهذه الطاعات، إنَّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء، لقوله تعالى :﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ [ السجدة : ١٦ ] والتحقيق فيه : أنَّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال، لا يقطعُ على الفوز بالثَّواب؛ لأنه يجوزُ من نفسه أنه قد أخَلَّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول، وقال الزمخشريُّ « المرادُ منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها ». فبيَّن تعالى أنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين « لَعَلَّ » و « عَسَى »، فما بالُ هؤلاء المشركين، يقطعون بأنَّهم مهتدون، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللهِ تعالى.